كتاب 11

08:14 صباحًا EEST

«النهضة» التونسية وهاجس البقاء في الصورة

إن الدور الكبير والأساسي الذي قامت به كتلة حركة «النّهضة» التونسية في المجلس الوطني التأسيسي في إسقاط قانون العزل السياسي، إنما ينطوي على رسائل عدة الغامض فيها أكثر من الواضح والمستبطن أكثر من المُعلن.

ويزدادُ فضولنا لفك شفرات هذه الرسائل، عندما نلاحظ حالة الصدمة التي أصابت أطرافا واسعة من المجتمع السياسي في تونس. بمعنى أن قيام حركة «النّهضة» بالتصويت ضد قانون الإقصاء السياسي، الذي كانت تسميه ويصفه الكثير من المنتسبين إليها بقانون تحصين الثورة، يشكل ليس فقط تحولا نوعيا في مواقف الحركة بل إنه بالأساس موقف أعاد ترتيب المشهد السياسي وفق تحالفات جديدة وغيّر إلى حدّ كبير الخريطة السياسية والأفق الذي بدأت تدنو منه.

لا شك في أن الدستوريين والتجمعيين المستهدفين أولا وأخيرا من قانون العزل السياسي هم المستفيدون من إسقاط حركة «النّهضة» للقانون بحكم أنها تمثل الأغلبية النسبية داخل المجلس الوطني التأسيسي. ولكن غير الظاهر سياسيا هو أن حركة «النّهضة» هي المستفيد الأكبر. ذلك أن الحركة التي كانت لا تعترف بحركة «نداء تونس» وترفض حتى التحاور معها والتي قام الكثير من قياداتها بما يمكن أن نسميه «شيطنة» قيادات «نداء تونس» والدستوريين عموما (ويشاركها في الشيطنة أحزاب أخرى) لم يخطر لها هكذا وفجأة ودون أسباب قوية وقاهرة الانقلاب على المواقف السابقة وتأمين الأرضية القانونية لمشاركتهم في الانتخابات القادمة.

إنه تغيير نوعي ودقيق، يمثل نتاج قراءة واقعية وبراغماتية للواقع التونسي بمختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وكي نفهم جيدا ما ربحته حركة «النّهضة» من إسقاطها لقانون الإقصاء من المهم أن تتصور ما كانت ستخسره لو أنها ساندته وتمت المصادقة على قانون العزل السياسي.

ففي ظل هذه المقارنة فقط، يسهل فهم قبول حركة «النّهضة» بالسيئ لتجنب الأسوأ.

كما أن أي موقف نوعي تتخذه الحركة لن تُفهم معانيه إلا إذا وضعت في إطار منهاج العمل في حركة النهضة وآلياته. والذي قد يظهر للبعض تنازلات سياسية هي في الواقع تنازلات مدروسة وظرفية وهي بأكثر دقة: تنازلات من أجل المشروع ككل. ويُحتم مشروع حركة «النّهضة» كي يضمن الإطار الواقعي والموضوعي لفاعليته واشتغاله أن تبقى الحركة في الصورة مهما كان الثمن.

طبعا يقوم هذا التحليل على فرضية أن هناك ما يهدد «النّهضة» بإمكانية خروجها من الصورة. فعلاوة على أن دعمها من خلال التصويت لإسقاط قانون العزل السياسي هو في مصلحتها السياسية وطنيا ودوليا (وإن كان يضعها في مواقف نقدية حادة داخل الحركة ومع جزء واسع من قاعدتها)، فإن تجربتها في الحكم قادتها إلى مجموعة من النتائج والعبر وأولها أن شريكيها في الترويكا قد خذلاها في مواقف عدّة وتحملت وحدها وزر تبعات الفشل في الحكم. ومن ثم، فإن خوض تجربة الاستقطاب الثنائي السياسي في الحكم أفضل من حيث تقاسم المسؤوليات وحلّ المعوقات وإيقاف موجة الاحتجاجات من التعويل على أحزاب تصنع الائتلاف صوريا أكثر منه عمليا، خصوصا إذا وضع في الحسبان إلمام الدستوريين بأعماق البلاد وخبرتهم في تفاصيل تهم سوسيولوجيا الحكم والمسارب الانتخابية. ناهيك عن تمكن حركة نداء تونس مثلا المحسوبة على الدستوريين والتجمعيين من تحقيق شعبية حسب استطلاعات الرأي المتواترة.

من جهة أخرى، من الواضح جدا أن الظروف الدولية اليوم لا تسمح بارتكاب الحركات الإسلامية الموجودة في الصورة (أي في المشهد السياسي بشكل عام أو في سدة الحكم) لأخطاء استراتيجية خصوصا أن هشاشة البلاد الاقتصادية لا تتحمل حتى مجرد المغامرة بسلك نهج الإقصاء ولا حتى مجابهة ردود فعل الذين سيشملهم الإقصاء أفرادا وأحزابا ومن يقف وراءهم من رجال أعمال ومنظومة كاملة متحفزة ضد قرار إعدامها سياسيا. بمعنى آخر، نعتقد أن حركة «النّهضة» راعت مصلحتها بالأساس في البقاء في الصورة وسحبت البساط من خصومها الدستوريين عندما رفضت اعتماد تصفية خصومها السياسيين بقوانين الإقصاء ورفضت إعطاءهم ذريعة لجرهم لاستعمال العنف وساعتها تكون الضربة القاصمة للظهر.

لقد كان وقوف حركة «النّهضة» لإسقاط قانون العزل السياسي رسالة للخارج قبل الداخل، إذ بدأ التراجع التدريجي في الدفاع عن الإقصاء منذ الصائفة الماضية التي شهدت خروج الإخوان المصريين من الحكم ومن اللعبة السياسية ككل وصولا إلى حظر ممارسة نشاطهم.

وهو – أي إسقاط قانون الإقصاء – ترجمة عملية للحذر الكبير الذي بدأ يهيمن على سلوكها السياسي: حذرٌ مشحون بهاجس البقاء في الصورة، على الأقل في الوقت الحالي.

التعليقات