آراء حرة
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: خارج حدود الإنسانية
في فبراير الماضي، أراد كريستوفر هيتشنز مدير تحرير مجلة فانيتي فير أن يخرج من أسر الآوراق والصور الجامدة، فألقى جسده طواعية فوق لوح من الخشب ومد قدميه بطول المغامرة، في انتظار فريق العمل. لم يكن الرجل يمارس طقوس مساجه المعتاد حيث تخضع عضلاته المتوترة لدغدغة الأنامل الطرية .. فقط أراد أن يختنق طواعية، وأن يقف على شفرة برزخية بين الحياة والموت. وبعد لحظات من انتظار قلق، اختفت ملامح الرجل خلف قناع أسود، وبدأ العد التنازلي نحو تهور يستحق الشهقة.
وضع فريق العمل قضيبين صغيرين من حديد وقلادة من تعليمات في رأس الرجل الأشيب: “حين يسقط قضيب، أو تزفر بكلمة “أحمر” سنوقف التجربة فورا. وبعد لحظات شعر الكهل بفوطة مغمورة بالماء كتلك التي استخدمتها ريا وسكينة في التخلص من ذوات الشحم والذهب. حاول الرجل أن يصمد قليلا .. حاول أن يكتم رعبه أمام الكاميرا، لكنه سرعان ما أسقط القضيبين من قبضتيه وأسلم كرشه لرعشة مستحقة.
رفع المجربون كمامتهم المبللة من فوق الوجه المحتقن، ومن ورائها غطاء الرأس الأسود ليمارس الرجل ما تبقى له من حق في الحياة. كان الرجل يتصبب ذعرا، وقد بدا الإعياء على ملامحه المتعبة، وظل يشهق كثور ذبيح فترة من الهلع. وحين ذهب الخوف عنه، وهدأ روعه، تحدث هيتشنز عن تجربته المرعبة وهو يسترق شعاع الحياة من فكي الموت. كان الرجل يريد أن يمارس حقه في المغامرة، وأن يشعر بمأساة أولئك الذين استباحت المخابرات المركزية في أمريكا حلوقهم باسم محاربة الإرهاب والحفاظ على الأمن القومي.
يوما، صرخ خالد شيخ محمد في جوانتانامو من خلف الفوط المبللة بالماء، لكنه لم يكن يجرب المعاناة، بل كان مجرد فأر تجارب للاستجواب والقهر. ولم يكن الواقفون حوله جوقة من المصورين الهواة، بل كانوا من أباطرة التعذيب الممنهج والخنق المحمود. ولم تكن القضبان الساقطة أو الشهقات المتتابعة تثير في قلوب المتحلقين حول طاولته أي شفقة. فقد كان صاحب الحذاء المتفجر يخطط لتفجير برج الحرية في لوس أنجلوس أو هكذا يدعون. ولربما كان يخطط لمزيد من الحمق هو ورفاقه القاعديون في أمريكا الآمنة المطمئنة. ولأن الغاية تبرر التعذيب، فلا تثريب على فريق التحقيق إن استخدم حيلة حسب الله سعيد مرعي أو محمد عبد العال زوجي السفاحتين دون أن يرتدوا قناع الفكاهة الذي أنسانا مأساة الوجوه الشاحبة خلف الفوط المبللة.
كانت كارثة انهيار برجي التجارة فاجعة بطعم الألم، تناثرت على إثرها أشلاء آدمية وغرف ومكاتب، وتطاير الغبار آلاف الهكتارات في بلاد لم تألف الرعب المنظم ولا المتفجرات الطائرة منذ حربها العالمية الأخيرة. لكن الكارثة الهائلة تجاوز غبارها حدود أمريكا الأخلاقية، وأسقط عن وجهها الملائكي مساحيق الإنسانية والعدالة، وبدت أمريكا في زيها الحربي المزين بالفوط المبللة كآلهة الأولمب القاسية، فراحت تبرر لنفسها ما حرمته الشرائع والمواثيق الدولية في انتهاك فاضح لحقوق المعتقلين.
وكما تستورد الدول غذاءها من قمح أمريكا المسرطن، كذلك تستورد عنفها وقسوتها مع الواقعين تحت حزام قهرها. وبعد ثلاثين عاما من توقيع اتفاقية مناهضة التعذيب، تخرج علينا منظمة العفو الدولية بتقرير صادم عن الممارسات اللاإنسانية التي يتعرض لها المعتقلون في أنحاء المعمورة. فمن بين 142 دولة وقعت على الاتفاقية، لا زال العنف ضد المعتقلين والسجناء يمارس بشكل ممنهج في تسع وسبعين منها، ناهيك عمن لم يوقع عن الاتفاق أصلا من الدول المارقة عن حدود الإنسانية. صحيح أن التقرير قد خص بالذكر خمس دول بعينها وهي: نيجيريا والمكسيك والفلبين والمغرب وأوزباكستان، إلا أن حقوقيين في دول شتى يؤكدون أن التقرير ليس محايدا، وأن التعذيب الممنهج يكاد يغطى معالم الكوكب المقهور.
لا شيء يبرر العنف مع المسجونين، ولا ذريعة تبيح استخدام الفوط المغمورة بالماء في استنطاق الأسرى والمعتقلين حتى وإن خططوا لتدمير برج الحرية في لوس أنجلوس. فتطبيق القانون هو المخرج الوحيد للدول التي تعاني من تنامي المنظمات المسلحة فوق أراضيها كنيجيريا. وعلى من فتح صندوق باندورا بحجة محاربة الإرهاب أن يغلقه حتى لا تضيع الدول بين عصابات حكومية تقنن العنف وعصابات غير حكومية تنتهجه، وحتى لا يسقط المواطن فريسة للعنف والعنف المضاد ويتحول كل من خالف أو عارض إلى إرهابي يستحق النوم فوق خشبة بطول الألم ليقاسي مرارة الشهقات المكتومة في الغرف المظلمة.
Shaer129@me.com