كتاب 11
أنقذونا بها من الاختناق
حسب الكلام الصادر عن وزير التعليم العالى، الدكتور وائل الدجوى، قبل يومين، فإن الحكومة تتجه إلى إقرار نظام جديد للقبول بالجامعات، بما يؤدى إلى الحد من اغتراب الطلاب.
وقد جاء وقت علينا لم نكن نملك فيه سوى ثلاث جامعات: القاهرة، وعين شمس، ثم أسيوط، وبالتالى فلم يكن هناك مفر من اغتراب ملايين الطلاب، لأنه لم يكن هناك بديل آخر أمامهم!
وخلال سنوات قليلة مضت، صار فى كل محافظة، تقريباً، جامعة، ولم يعد طالب كفرالشيخ، مثلاً، مجُبراً على أن يدرس فى القاهرة، ولا أصبح طالب بنى سويف مرغماً على الذهاب إلى أسيوط.. وهكذا.. وهكذا!
وإذا كانت الدولة تراجع الفكرة، الآن، فلابد من مراجعة ما ارتبط بها، خصوصاً موضوع المدن الجامعية.
وأظن أنه يمكن للحكومة، ابتداء من العام الدراسى المقبل، ولأعوام تالية، أن تتخلص من حكاية المدينة الجامعية، لأنها نشأت فى الأصل عندما كان أغلب طلاب جامعات العاصمة مغتربين، ولم يكن هناك بد، وقتها، إلا أن تساعدهم الدولة فى الإقامة.
وبالطبع فإن هناك كليات لا نظير لها فى المحافظات، ومن بينها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أو دار العلوم، أو الآثار، وهذه يمكن للإدارة أن تستأجر لمغتربيها مبنى، أو مبنيين، فى أى موقع فى القاهرة، بدلاً من تخصيص أكثر من 30 مبنى للإقامة الجامعية، فى جامعة القاهرة وحدها!
وإذا كان هناك رأى يقول، إن مبانى المدن الجامعية الحالية يمكن استغلالها فى الأنشطة التعليمية، فإن التوظيف الأفضل ربما يكون بتحويل مساحاتها كلها إلى حدائق عامة، تتنفس منها هذه العاصمة المخنوقة!
إن المدينة الجامعية القديمة فى جامعة القاهرة وحدها تقوم على مساحة شاسعة، ويمكن عند تحويلها إلى حديقة عامة أن تمثل رئة تمنح عاصمتنا بعضاً من جمالها المفقود، وتعيد إليها شيئاً من روحها الغائبة!
ولابد أن المرء يستغرب كيف لم يفكر أحد، منذ سنين، فى فكرة كهذه.. فانتشار الجامعات فى محافظاتنا ليس وليد هذا العام، وإنما هو حقيقة قائمة منذ مدة طويلة، وقد كان الأجدى أن نفكر بسرعة فى مبرر وجود المدن الجامعية، وأن ندرك أنه مبرر انتفى، وأن فلسفة الفكرة ذاتها لم تعد مجدية، وأن ميزانية التعليم العالى، المثقلة بالإنفاق على غير التعليم الحقيقى، يمكن أن تتخفف من إنفاق المدن، وهو رقم ضخم نستطيع به أن نعدل بعض حال تعليمنا المائل!
زمان.. كتب الدكتور محمود عمارة عن حكاية طريفة جرت فى إنجلترا، عندما انتدبت الحكومة هناك، ذات يوم، جنديين من جنود التشريفة الملكية، لتنبيه المارين بجوار مبنى حكومى، كانت إدارته تعيد دهانه، وكان لسان حال كل جندى منهما يقول لكل شخص يمر بجوار المبنى: إوعى البوية!
يقال إن البوية خفت، وإن سنوات مرت، وإن الجنديين بقيا فى مكانهما، لأن الذين جاءوا بهما إلى مكانهما قد نسوا أمرهما تماماً، ثم نسوا ما هو أهم، وهو أن مبرر وجودهما قد انتفى بالإجمال!.. وكذلك حال موضوعنا!
باختصار، لم يعد للمدن الجامعية، بشكلها القديم، أى مبرر!