كتاب 11
مفارقات سياسية
تستعد الأحزاب البريطانية لخوض انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي بعد ثلاثة أسابيع. وستكون يوم خميس كالعادة حسب التقاليد.. (لا يوجد دستور مكتوب في أعرق الديمقراطيات، ولا إرشادات مدونة، وإنما تسير الممارسات الديمقراطية بالتقاليد).
الخميس 22 مايو (أيار) سيكون يوم التصويت، وأيضا انتخابات المجالس المحلية للبلديات.
بجانب الحزبين الكبيرين الأشهر، المعروفين لقراء «الشرق الأوسط»، المحافظين والعمال، وإلى حد ما الديمقراطيون الأحرار، شركاء المحافظين في الائتلاف الحاكم، هناك أحزاب صغرى، كالخضر، مثلا والأحزاب القومية كالقوميين الاسكوتلنديين (يريدون انفصال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة) والحزب الوطني لإمارة ويلز، وأحزاب آيرلندا الشمالية فهناك الحزب القومي البريطاني (حزب فاشي على نمط النازية الألمانية في الثلاثينات) ورابطة الدفاع الإنجليزية وهي مجموعة تخوض معارك مستمرة مع المتطرفين الإسلامويين. وهناك الحزب الديمقراطي الإنجليزي الذي يريد استقلال إنجلترا عن المملكة المتحدة.
وهناك مجموعة من الأحزاب قد لا يتجاوز عدد نشطائها أصابع اليد الواحدة. أهدافها الاحتجاج بالتهريج والضحك كحزب المجنون المتوحش المفترس الطائر وكان مؤسسه كوميديانا غير اسمه إلى «اللورد كذا»، وبعض مقترحاته التي اعتبرت ضربا من الجنون قبل أربعين عاما، كإلغاء الزي المدرسي، وفتح الحانات 18 ساعة يوميا – بدلا من سبع ساعات مرخص بها – قد أصبحت سياسية معتادة، بل وحزب للغانيات وواحد لأصحاب المعاشات.
المفاجأة أن الحزب الذي وصفه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون مرة بأنه حزب المخبولين بأدمغة محشوة بفطائر الفاكهة، هو الحزب المتقدم على جميع الأحزاب الأخرى في استطلاعات الرأي.
حزب استقلال المملكة المتحدة، يسبق بقية الأحزاب بـ11 في المائة ووراءه العمال فالمحافظون في آخر استطلاعات الرأي.
الحزب بدأ قبل بضعة أعوام كتيار له قضية واحدة: إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو مطلب شعبي لأغلبية الناخبين في بريطانيا.
الحزب لا يستخدم في شعاراته كلمة بريطانيا، بل المملكة المتحدة، ليؤكد على كلمة الملكية، لأن مفوضية الاتحاد الأوروبي يسارية تفضل النظام الجمهوري، وعلى أن بريطانيا اتحاد من أربع قوميات (اسكوتلندا، وآيرلندا، وإمارة ويلز، وانجلترا)، كما أنها تعتبر أقدم وأنجح الديمقراطيات، والحكومة من مستوى البلديات الصغيرة إلى الحكومة الذاتية في ويلز واسكوتلندا وشمال آيرلندا، إلى المستوى القومي، تتغير بالانتخابات وخاضعة للمحاسبة اليومية في البرلمان؛ بعكس المفوضية الأوروبية غير المنتخبة، ولا تملك الشعوب التي تمول ضرائبها الاتحاد الأوروبي، تغييرها، كما أنه لا توجد آليات ديمقراطية لمحاسبة المفوضية.
الشعب البريطاني ضاق ذرعا بقرارات ولوائح تبدو مجنونة لقوم عقلانيين يحكم حياتهم المنطق، وما يزيد حنقهم أن مفوضية الاتحاد الأوروبي غير ديمقراطية ولا يمكن محاسبتها كما يحاسب البريطانيون حكوماتهم في مجلس العموم وفي المجالس البلدية.
حكومتا العمال والمحافظين المتعاقبتان وعدتا الشعب باستفتاء عام على الاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي، الذي كان بدأ كسوق مشتركة تحولت إلى فيدرالية دون استطلاع رأي الشعب، لكن نكث الحزبان الكبيران الوعد.
والتراجع عن الوعد هو الوقود الذي يدير محرك حزب الاستقلال ويزيد من شعبيته.
زعيمه نايجل فاراج يمثل الشخصية البريطانية التقليدية بالمشروب في يده والسيجار في اليد الأخرى، يتحدث لغة الناس العاديين بلا تنميق أو حذلقة المثقفين.
الكلام عندما يكون صاحبه في المعارضة رخيص، بل «ببلاش» لا يكلف شيئا، بينما الوزير أو رئيس الوزراء أو حتى نائب البرلمان العادي حذر في كلامه، وغالبا ما يخفي الحقائق ليسير بحذر على خط الحزب، وهو ما أثار ضجر الناس، وبالتالي يستغل حزب الاستقلال وزعيمه فاراج مراوغة الساسة التقليديين وتلاعبهم بالكلام وإخفاءهم الحقائق عن الناخب لزيادة شعبيته.
المفارقة المضحكة أن كل استطلاعات الرأي تشير إلى أن غالبية النواب الذين سيمثلون بريطانيا في البرلمان الأوروبي، بعد انتخابات هذا الشهر، سينتمون إلى حزب يسعى إلى تقويض الاتحاد الأوروبي وسحب بريطانيا منه. أما حزب الخضر المهتم بشؤون البيئة، وله شعبية واسعة في بلدان أوروبا الوسطى وألمانيا، يتذيل في بريطانيا قائمة الأحزاب التي تتنافس في انتخابات البرلمان الأوروبي يوم 22 مايو.
شعبية حزب الاستقلال وصعوده أفقدا الحزبين الكبيرين وزعماءهما صوابهم.
القضايا التي يطرحها حزب الاستقلال وتزيد من شعبيته، مثل طغيان لوائح وقوانين الاتحاد الأوروبي التي تنقص من سيادة بريطانيا وتحد من حرية تجارتها مع بقية أنحاء العالم، وقضية المهاجرين المتدفقين من بلدان شرق أوروبا السابقة فيدفعون بالعاملين البريطانيين إلى طابور البطالة ويزيدون أعباء خدمات الصحة والتعليم والمرافق العامة، قضايا يتجاهلها ساسة الحزبين الكبيرين المحافظين والعمال، وبدلا من مواجهتها يشنون حملة شعواء على الحزب، ويتهمونه بالعنصرية والفاشية.
الصحافة، خاصة البي بي سي، يسارية بطبعها، تشن حملة تشبه محاكم تفتيش القرون الوسطى ضد الحزب. المواطن البريطاني العادي يرى الصحافة جزءا من المؤسسة السياسية، وكلما زاد الهجوم على الحزب (مثل ضرب شاب يساري زعيم الحزب فاراج ببيضة فوق رأسه بعد ظهر الخميس) ارتفعت شعبيته، فالإنجليز بطبعهم تاريخيا يتعاطفون مع الضعيف في أي معركة ومع المظلوم، خاصة إذا قاوم بهدوء وأدب الهجوم. فاراج وحزبه يقابلون هجوم ساسة الحزبين الكبيرين والصحافة بالنكتة والضحك والسخرية، والناخب البريطاني يعشق خفة الدم، في الجدل السياسي.
الطريف أن الحزبين الكبيرين خصصا أموالا وإمكانات هائلة وعددا كبيرا من الباحثين لمراقبة كل أعضاء حزب الاستقلال والتفتيش في ماضيهم عن أي هفوة أو خطأ أو كلمة يعتبرها المثقفون عنصرية أو معادية للتقدم، لكن الناخب العادي يرى ما يعتبره المثقفون «رجعية» انعكاسا لمزاجهم الفكري، وبالتالي ترتد هجمات المؤسسة السياسية التقليدية إلى صدرها.
انشغال الأحزاب الكبرى بوضع إمكاناتها لمراقبة حزب الاستقلال وتصيد أخطائه جعلهم يتغافلون عن وضع هذه الإمكانات لمعرفة متاعب وهموم الناخب، وبالتالي تتراجع شعبيتهم.
وسر الارتفاع المفاجئ في شعبية حزب الاستقلال أنه حزب يثير قضايا تهم المواطن، لكن أسلوب التناول هو على العكس تماما من طريقة عمل الساسة المحترفين في حزبي المحافظين والعمال؛ الحزبين اللذين احتكرا العمل السياسي ويشكل أحدهما الحكومة.
الملاحظ أن المسلمين في بريطانيا، وهم دائما عالو الصوت ودائمو الاحتجاج يريدون منع أعمال فنية، أو فرض رقابة، أو مصادرة كتاب، ويسيرون مظاهرة احتجاج، وضعوا أنفسهم خارج اللعبة الديمقراطية.
كان يمكنهم خوض الانتخابات إما داخل الأحزاب الكبرى، أو حتى كتيارات صغيرة تدافع عن مصطلح الأقليات وهي قضية محددة تلقى شعبية وقبولا في فلسفة الاتحاد الأوروبي، خاصة في بلدان كفرنسا وهولندا وألمانيا حيث يشكل المسلمون كتلة انتخابية ضخمة.. وعلى مستوى الحكومات المحلية والبلديات، يتوقع أيضا أن يحقق حزب الاستقلال نتائج كبيرة تهز حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال المعارض. وكانت فرصة لمسلمي بريطانيا لكنهم لم يستغلوها هذه المرة.