كتاب 11
حكمة القنافذ فى عصر الإنترنت
ملايين من الشعب المصري الآن مشتركة في مواقع التواصل الاجتماعي تستخدم تقنيات القرن الواحد والعشرين، وتفكر بطريقة بدايات القرن العشرين، فتتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها البديل التقليدي للزيارات المنزلية والأحاديث التليفونية مع الأهل والأصدقاء. منذ عدة أيام فاجأتني صديقة بتليفون، بدت غاضبة وقالت لي: «أنا زعلانة منك جدا، أنا قلت أصارحك علشان لا يبقى في نفسي شيء تجاهك» قلت: خير! فقالت: «كل ما تكتبي حاجة على الفيس بوك حتى قبل أن أقراها أعمل لايك وانتي ولا مرة الأسبوع ده كله عملتي لايك لبوست من عندي يعني مش معبراني أو مافيش حاجة بكتبها بتعجبك بالرغم إني بأتابع تعليقاتك عند الأصدقاء المشتركين، وأجدك تجاملين الجميع، وبترشي لايكات هنا وهناك بسبب ومن غير سبب». فوجئت بغضبها وحديثها.
التزمت الصمت لثوان، فهذه الصديقة العزيزة عضوة معي في نفس النادي ونعيش في نفس الحي ونتزاور ونتشارك في الكثير من وجهات النظر في الحياة، فكيف تخيلت أننى أتجاهلها؟ وكيف ارتضت لنفسها أن تتابع تعليقاتي لدى الأصدقاء الآخرين وتقارن نفسها بهم بأسلوب المتلصصين المتربصين؟ وكيف أعطت لنفسها الحق في أن تفرض معايير في ذهنها على علاقة الصداقة بيننا وتتعدى حدودها في العتاب الذي لا يفسد الود إلى السخرية الجارحة؟ كيف حولت القرب بيننا إلى عبء شعرت معه أنه قيد مزعج، لكن الله ألهمني الصواب وأعطيت لصديقتى عذراً، فالمجتمع كله فاقد لثقافة المسافات، فنحن مازلنا لا ندرك قيمة المسافات في حياتنا الواقعية ونطبق هذا الفشل في العالم الافتراضي الرحب أيضا، خرجت من صمتي وقلت لها: «ياستي متزعليش، أنا غلطانة، ومن الآن ستجدين فرقا، ستنهمر عليكى التعليقات والإشادات». لم تكن لديّ رغبة في مجادلتها بل كنت أريد إنهاء هذه المحادثة التي جعلتني أفكر في المسافات.
تذكرت مقالا قرأته للمفكر الدكتور زكي نجيب محمود عن حكاية طريفة حدثت لمجموعة من القنافذ اجتمعت في ليلة شتوية باردة جعلتها لا تستطيع النوم من شدة برودتها، وكانت تريد إيجاد حل لذلك، اقترح أحدها أن تقترب بشدة من بعضها البعض لتدفأ أجسادها، وعندما فعلت ذلك شعرت بالدفء، لكن في نفس الوقت تألمت من وخز شوكها حين تلامست أجسادها، فعادت للابتعاد مرة أخرى، فوخز الشوك كان أقوى من الشعور بالبرد، وعندما ذهب الألم عادت للتفكير في مشكلتها، كيف تتغلب على الصقيع؟ وهنا اقترح آخر تعديلاً في الاقتراح الأول وهو أن تقترب لتنعم بالدفء، لكن بشرط أن تترك مسافة قصيرة بينها حتى لا تنغرس الأشواك فى أجسادها من جديد.
أتذكّر هذه القصة كلما فكرت في المسافات بين الناس، المسافة الفضلى التي تحفظ الود ولا تضيع الخصوصية، أتذكر مرة عاتبت صديقة عن أنها لا تتصل إلا مرة كل أسبوع، فأجابت برقة: «لولا المسافات لاحترق الخبز». استوقفتنى العبارة البسيطة والعميقة والموجزة، عبارة تضع أيدينا على أصل البلاء في علاقاتنا، وهي عدم تحديد المسافة بين بعضنا البعض؛ فنتصور أن الحب هو أن تفقد المسافة تماما بينك وبين من تحب؛ فمن حقك أن تتدخل في شؤونه وتنصحه ليل نهار، ومن واجبه أن يقابل ذلك بابتسامة رضا وشكر.
الحس الشعبي أدرك حسبة المسافات وعبّر عنها في المثل القائل: «إن كبر ابنك خاويه» والمثل يدل على تغير علاقة المسافات، في البداية العلاقة بينك وبين أولادك تكون علاقة رعاية شاملة تستلزم القرب إلى حد الملامسة الدائمة، وكلما كبروا وشبوا عن الطوق اتسعت المسافة بينكما فهذه سنة الحياة، ولا يعني هذا أن الحب انتهى أو تغير، ولكن العلاقة هي التي تطورت ونمت نموا طبيعيا. ويجب على الوالدين أن يدركا أن طفلهما كبر وخرج من دائرة نفوذهما إلى دائرة اهتمامهما، وهي دائرة أوسع وأكثر رحابة ولطفا.
أحياناً، تحتاج الحياة منا لأن نصنع بإرادتنا المسافات، أن نبتعد اختيارياً لنحدد من جديد المسافات الفاصلة بيننا وبين الآخرين، تبعاً لإدراكنا لهذه العلاقات وإحساسنا بها، ونتساءل: هل علينا أن نقترب أكثر أو نبتعد أفضل؟
ونجاح العلاقة الزوجية قائمة على فلسفة المسافات، والمرونة في تطبيقها، وإحساس كل من الشريكين بالآخر واحتياجاته في كل مرحلة من مراحل حياتهما المشتركة. أحياناً يكون لزاما الاقتراب، حين يشعر الشريك باحتياج شريكه للمساندة والمؤازرة والدعم، وأحيان أخرى عليك أن تفسح له الطريق وتترك مسافة تتيح له حرية يحتاجها واشتياقاً يفيده، على أن يظل في كل الأوقات في دائرة اهتمامك ولا تفكر أبداً في وضعه في دائرة نفوذك، تملى عليه النصائح مرة وتصدرالأوامر مرات.
استمرار العلاقات بين أى شخصين: أزواج، أصدقاء، زملاء عمل.. على مدى سنوات لا يعني أنها ستستمر للأبد، التدبر والتأمل والمراجعة والمرونة مع الصفح والتسامح تبقيها حية ومتطورة.
العلاقات مثل الحياة، تحتاج لرؤية وجهد لإنجاحها.
لولا المسافات لاحترق الخبز.. ولولا البعاد ما كان الشوق.. ولولا المستحيل ما كان الممكن.. ولولا غياب الشمس ما ظهر القمر. ابتعدوا فترة لتقتربوا أكثر.. وخذوا حكمتكم من القنافذ.