تحقيقات
«ماركيز» معشوق الرواية.. يلملم أوراق «مائة عام من العزلة» ويرحل
عاش غابريال غارسيا ماركيز ليروي، حيث أنه سمى مذكراته التي صدرت عام 2002 “عشتُ لأروي”، كانت حياته عبارة عن الحكايات والذكريات التي كان يرويها ويكتبها، ولم تكن الحياة التي عاشها بأيامها ولياليها.
فما لا يعلمه كثير من عشاق ماركيز الشهير بـ«غابو» أنه بدأ حياته صحفيا، قبل أن تحمله الرواية إلى العالمية، فقد عمل الروائي الراحل مراسلا صحفيا منذ خمسينيات القرن الماضي في الصحف المحلية الصادرة بمسقط رأسه في كولومبيا، قبل أن ينتقل إلى صحيفة الاسبكتادور الصادرة بالعاصمة بوغوتا.
حيث قال عنه الصحفي الأميركي جون أندرسون إن “أهم شيء يكتسبه الصحفي من غابو هو طريقته في ملاحظة التفاصيل عندما لا يكون هناك شيء يحدث”، كما أنه اشتهر بطريقته الفريدة والخاصة في مقاربة الأحداث مع حس فكاهي يضاف إلى ملاحظاته الدقيقة.
وفي الصحافة كان ماركيز ايضاً كاتب ريبورتاج متميزاً، وهذا ما ظهر أثره في رواياته ذات الطابع السياسي الهجائي والتاريخي، لكنّ ماركيز كان ماهراً جداً في توظيف مهنة الصحافي في صميم صنيعه الروائي الذي راح ينحو منحى الواقعية السحرية التي سعى الى ترسيخها مع بضعة من الرفاق في القارة، وقد بلغت معه ذروتها في «مئة عام من العزلة»، هذه الملحمة الروائية التي تعدّ من عيون الروايات العالمية الخالدة مثلها مثل «عوليس» لجيمس جويس و»الصخب والعنف» لوليم فولكنر و»موبي ديك» لهرمان ملفيل و» في قلب الظلمات» لجوزف كونراد.
ولعلها مصادفة لافتة ان يرحل ماركيز في الشهر الذي صدرت فيه روايته «مئة عام من العزلة» في ابريل 1967 وبات عمرها الآن سبعة وأربعين عاماً، وهي الرواية التي صنعت له مجداً وشهرة ما كانا في حسبانه، كما يعترف، وفتحت أمامه الطريق الى جائزة نوبل عام 1982 وكرست اسمه روائياً عالمياً صاحب مدرسة وأسلوب غير مألوفين سابقاً.
ومع صدور هذه الرواية الرهيبة، التي تجمع بين الفنتازيا والفانتاستيك أو الغرائبية والمأساة والسخرية والعبث اصبحت مدينة «ماكوندو» التي تدور الأحداث فيها وحولها، إحدى أشهر المدن الروائية العالمية، وهي بدت صورة مختصرة عن العالم المتوهم الذي ابدعته مخيلة ماركيز.
وفي هذه المدينة التي لا حدود فيها بين الحقيقة والوهم تبرز شخصيات لا تُنسى، لا سيما عائلة «بونديا» التي تمثل بغرابتها ومأسويتها القدر الأميركي اللاتيني، المتخبّط في البؤس والمجهول، ومن هذه العائلة خرج الكولونيل أورليانو بونديا الذي يمثل نموذجاً كاريكاتورياً للديكتاتور الأميركي اللاتيني الذي يتزوج من سبع عشرة امرأة وينجب منهنّ سبعة عشر طفلاً يقتلهم واحداً تلو الآخر.
إلاّ أن ماركيز لا يمكن حصره البتة في «مئة عام من العزلة» التي تُرجمت الى ثلاثين لغة وتخطى مبيعها خمسة وثلاثين مليون نسخة وترجمت الى العربية في أربع صيغ عن الإنكليزية أولاً ثم عن الفرنسية وأخيراً عن الإسبانية مع المترجم صالح علماني. ماركيز هو أيضاً صاحب روايات وقصص غاية في الطرافة والواقعية السياسية كما السحرية، وهي تؤلف بذاتها «قارة» أدبية: «ليس للكولونيل من يراسله»، «الجنرال في متاهته»، «خريف البطريرك»، «الحب في زمن الكوليرا»، «قصة موت معلن» وبطل هذه الرواية البديعة سوري الأصل يُدعى سانتياغو نصار، وهو يقع ضحية مؤامرة تهدف الى قتله وقد أُعلن موته منذ مطلع الرواية. أما اللافت فهو اختتام ماركيز «مهنته» الروائية عام 2002 برواية «ذاكرة غانياتي الحزينات» التي سلك فيها سبيل الروائي الياباني الكبير ياسوناري كواباتا في روايته الشهيرة «الجميلات النائمات»، وكان ماركيز كتب مرة ان الرواية الوحيدة التي كان يتمنى ان يكون كاتبها هي «الجميلات النائمات». في هذه الرواية تحتدم ذاكرة ماركيز الإباحية التي يهيمن عليها خريف العمر. لكن ماركيز عكف بعد روايته هذه على اصدار مقالات له ونصوص سياسية، علاوة على مذكراته.
وكانت آخر مساهماته الصحفية عام 1999 خلال مفاوضات السلام التي جمعت الحكومة الكولومبية ومتمردي فارك الشيوعيين جنوبي البلاد.
وبموازاة عمله الطويل في مجال الصحافة، تألق الراحل وأبدع في الرواية، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس منذ بدأ بنشرها قبل عقود.
وباتت رواياته من أشهر ما كُتب في مجال الرواية خلال القرن الماضي، وبينها “مائة عام من العزلة” التي صدرت عام 1967، والتي ترجمت إلى 35 لغة وبيعت منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة.
ومن بين الروايات الشهيرة كذلك “ليس للكولونيل من يراسله” التي صدرت عام 1961، و”قصة موت معلن” عام 1981، والحب في زمن الكوليرا” سنة 1985.
وصدرت له آخر رواية عام 2004 بعنوان “مذكرات غانياتي الحزينات”.
ونال ماركيز جائزة “نوبل” للآداب سنة 1982، وقد أشادت الأكاديمية بأسلوب كتابته الذي “يمتزج فيه الخيال والواقع في إطار شعري يعكس نزاعات قارة والحياة اليومية فيها”.
وانسحب غارسيا ماركيز من الحياة العامة منذ عدة سنوات، وعاش في المكسيك منذ عام 1961 مع إقامات متقطعة في كارتاخينا بكولومبيا وبرشلونة بإسبانيا وهافانا الكوبية وبرغم عمله الصحفي، فلم يكن يدلي بأي تصريح للإعلام.
وآخر إطلالة علنية له تعود للسادس من مارس، عندما قصد منزله الواقع في جنوب مكسيكو، حيث يعيش منذ أكثر من ثلاثين عاما، لاستقبال صحفيين أتوا لزيارته بمناسبة عيد ميلاده.
الصحفي الروائي رثاه مشاهير العالم، مباشرة بعد الإعلان عن وفاته يوم الخميس الماضي، فاعتبر الرئيس الأميركي باراك أوباما أن “العالم فقد أحد كبار الكتاب المتبصرين، وأحد كتابي المفضلين في شبابي”.
كما أشاد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون بموهبة ماركيز الذي ربطته به صداقة لأكثر من عشرين عاما، وقال إنها موهبة “فريدة من نوعها في الخيال ووضوح الأفكار والنزاهة العاطفية.
كما كانت حياته غير عادية، أراد لوفاته أن تكون مختلفة، حيث أوضحت العائلة في بيان بعد ساعات من إعلان نبأ الوفاة، أن الجثة ستحرق وفق “مراسم خاصة”، من دون تقديم مزيد من المعلومات عن موعد حرق الجثة وموقعه.