كتاب 11

07:58 صباحًا EET

حرية الصحافة قضية اقتصادية لا سياسية

 الصحافة الحرة دعامة أساسية في أي نظام ديمقراطي، حيث لا يكفي برلمان منتخب وحده، مهما كانت اللوائح الديمقراطية وقوة المؤسسة القانونية، لضمان الحرية الديمقراطية، لأن الصحافة أهم الضوابط والتوازنات (Checks and Balances). فاقتصاد حرية السوق، والديمقراطية البرلمانية، متلازمان ولا يكتمل واحد منهما في غياب الآخر. الصحافة، كصناعة محترفة، دورها الديمقراطي لم يكن تعمدا، لكنه مصادفة تطورت إلى «مؤسسة اجتماعية» من طبيعة التركيبة الاقتصادية – الاجتماعية للنظام، وليس دورا سياسيا أو أخلاقيا مثلما يروج ويعتقد، خطأ، معلقون وصحافيون مصريون وعرب، في تضخيم ومبالغة لدورهم.

واقعتان أثارتا فكرة هذا العمود: الأولى اضطرار ماريا ميللر، وزيرة الثقافة والرياضة والدوائر التعبيرية (بما فيها الصحافة) البريطانية، للاستقالة إثر تقارير صحافية عن تلقيها مصاريف إضافية لا تستحقها من ميزانية مجلس العموم. والواقعة الثانية مشاركتي في برنامج نقاشي عن حرية الصحافة في شبكة «الجزيرة» القطرية؛ التي فتحت نافذة على مفهوم كثير من المصريين والعرب عن الصحافة والديمقراطية.

اكتشفت أن مقدم البرنامج والمشارك الآخر أكثر اهتماما بالسياسة من الصحافة وحريتها، حيث سارت المناقشة باتجاه «شيطنة» الحكومة المصرية والمؤسسة السياسية فيها أكثر من تناول حرية الصحافة كمفهوم. المشارك الآخر اعتبر نفسه صحافيا مصريا، لكنه كاتب سياسي، أي خلط بين تعريفي «الكاتب» و«الصحافي»، وهو خطأ شائع لدى الصحافيين العرب. الصحافي (Journalist) إذا لم يسبقه تعريف آخر في المفهوم الأنغلوساكسوني فهو صحافي خبر (Reporter) لا مقابل له بالعربية (باللغة المصرية المخبر الصحافي)، وبالضرورة «محايد».

ولا تجد فارقا كبيرا في الخبر نفسه في «الديلي تلغراف» المحافظة عنه في «الإندبندنت» اليسارية أو «التايمز» يسار الوسط. الموقف السياسي يختلف عند الـ«Columnist»، من كلمة «Column» (العمود)، حتى ولو صفحة كاملة، فتعريف الـ«Columnist» هو كاتب صاحب رأي. ومحرر صفحة الرأي «op-ed» (الأحرف الأولى للرأي Opinion والافتتاحية Editorial) يتعمد استضافة كتاب يثيرون الجدل لتحريك الرأي العام واستثارة ردود فعل خصومه، ويدعوهم أيضا للكتابة في الصحيفة.

كاتب الرأي لا يشترط أن يكون صحافيا (Reporter)، وحتى إذا جهل بلغة الصحيفة نفسها وملاءمتها لقرائها (The Style-book) فإن محرري ديسك الرأي «Subs» (اختصار Sub-editors) يعيدون صياغة نثر كاتب متخصص، أو سياسي له موقف، لكن تنقصه الخبرة الصحافية. وحتى هذا التخصص في كل الديسكات (Subs) لم أجد له مقابلا في الصحافة العربية، ومعظمها من المدرسة الفرنسية، وهي مدرسة تخلط بين الرأي والخبر والتحليل الإخباري (Editorialisation)، وهو عيب لا يغتفر في المدرسة الأنغلوساكسونية، التي تطوع كل أقسام الصحيفة لخدمة الخبر، فالأعمدة والافتتاحيات والكاريكاتير والتحقيقات كلها مرتبطة بالأخبار اليومية لأنها تهم القارئ. وبينما أنت كقارئ تلم بملخص الخبر (متى وأين وماذا حدث ومن هم الشخصيات) في الفقرة الأولى من الخبر في الصحافة الإنجليزية، فإنك في المدرسة الفرنسية لا تلم بكل التفاصيل حتى تقرأ الموضوع كله من الألف إلى الياء.

وتجد وظائف في الصحافة العربية (سكرتير تحرير ومدير تحرير) لا محل لها من الإعراب في الصحافة الإنجليزية.

ولذا لم يكن الأمر بغريب، أن المشارك في البرنامج ويسمي نفسه صحافيا هو بالضرورة كاتب له موقف سياسي، يقود حملة ضد الحكومة المصرية، وحرية الصحافة (حسب مفهومه) عصا يلهب بها ظهر خصومه، وليس الأمر دفاعا عن حرية الصحافة كمبدأ لا يجوز المساس به تحت أي ظرف أو مفهوم أو مبرر أو عذر، مهما كان نبل القصد. ويشاركه في ذلك مقدم البرنامج نفسه، حيث تناول الموضوع من زاوية سياسية المقصود بها إقناع المشاهد بأن النظام الحالي في مصر أكثر انتهاكا لحرية الصحافة من نظام «الإخوان المسلمين» (جدلية تستهين بذهنية المشاهد؛ فكيف لجماعة آيديولوجية تريد أن تفرض على الناس الملبس والمأكل والمشرب وأسلوب الحياة أن تكون أكثر تساهلا وتسامحا في حرية الصحافة؟).

وقد صعب على المشاركين قبول الجدلية الأساسية التي أتمسك بها، وهي أن حرية الصحافة لا يمكن ضمانها بإصدار لوائح وقوانين ومواثيق شرف، لأنها ليست قضية سياسية وإنما مسألة اقتصادية في نظام حرية السوق التجارية.

المنافسة الحرة بين المنشآت الصحافية تضطر المحررين لتحسين السلعة الصحافية (مكتوبة أو مسموعة أو مرئية) للمستهلك، والنجاح في الرواج (زيادة التوزيع أو عدد المشاهدين) يعني الربحية الاقتصادية، أي الاستقلال عن تمويل الدولة أو الحزب السياسي.

المشارك، كناشط سياسي (عمود الرأي جزء من حملته السياسية، وليس صحافيا محايدا) طبعا لم يقبل هذه الجدلية البديهية (والتي هي ضمان حرية الصحافة في كل النظم الديمقراطية التي تخضع فيها الحكومة للمحاسبة بلا استثناء واحد). فهو مثل عدد كبير من الصحافيين المصريين والعرب، المصابين بتضخم هائل في أهمية الذات، والذين يبالغون في «دور الصحافة» (وهو دور المؤسسات الاجتماعية التعليمية والأخلاقية كرجال الدين والأسرة)، ولو اكتفوا بتغطية الأخبار بمهنية محايدة لعظم دورهم.

بالنسبة للواقعة الأولى عندما كشفت صحيفة «الديلي ميل» (يمينية تدعم المحافظين، لكن المهنية والولاء للقارئ سبقا الموقف السياسي) تلاعب الوزيرة المحافظة في المصاريف البرلمانية، لم تكن دوافعها أخلاقية أو سياسية، وإنما مهنية صحافية لسبق المنافسين بهدف زيادة التوزيع. النائب البرلماني يجوز له الحصول على مصاريف مسكن إضافي قرب مجلس العموم إذا كان من دائرة خارج لندن، وأيضا مصاريف السفر بالقطار (درجة ثانية وليس درجة أولى، حتى لو كان وزيرا أو رئيس الوزراء نفسه، يدفع فارق الدرجة الأولى من جيبه الخاص). لكن الوزيرة وضعت على كشف المصاريف فائدة قرض لشراء دار في لندن بلغت أكثر من أربعين ألف جنيه، وقد حققت أرباحا من مضاعفة سعر المنزل، لكنها أعادت لخزانة البرلمان ستة آلاف جنيه فقط.

الصحيفة في افتتاحياتها ذكرت القراء بأن الوزيرة في حكومة أصدرت لوائح تجعل من تلاعب أي عاطل في الحصول على بضعة جنيهات إعانة إسكان جريمة يعاقب عليها القانون، فلماذا لا يطبق القانون على الوزيرة؟ فاضطرت للاستقالة.

ورغم أن الأمر كان محل نقاش في عشرات البرامج التلفزيونية والإذاعية (ما بين الشبكات هنا 17 برنامجا لمناقشة الصحافة المطبوعة يوميا) طوال أسبوع، لم يحدث، ولو مرة، أن تحدث صحافي واحد عن دور الصحافة في المجتمع وأهميتها للديمقراطية ومراقبة الساسة، وإنما كانت التحليلات بمهنية عن كيفية تناول كل صحيفة للموضوع من ناحية المقارنة، ونجاح الصحف التي أبرزت التناقض بين إسراف الساسة في إعلان المبادئ، ومناقضة أفعالهم لأقوالهم.

التعليقات