كتاب 11
ديمقراطية الأغنياء
«من كثرة ما نردد كلمة الديمقراطية أصبحت لفظة مضللة، فهذا الشيوع أفقدها أصالتها، وحوّلها لمعنى فضفاض يمكن للجميع استخدامه وفق رؤيته».. هكذا عبر المفكر الفرنسى جان بودريارعن ابتذال بعض المعانى والقيم بعد عولمتها ليصبح ما تبقى منها صورة، ففى كل بلاد العالم يتم رفع شعار الديمقراطية حتى من أشد نظم الحكم قمعا وديكتاتورية.
الديمقراطية بمعناها الشائع، وهى «حكم الشعب لنفسه» تحولت لخدعة، وللأسف الشعوب مازالت على حالها يحكمها قلة تملك المال الوفير وأدوات التأثير، وإذا كنا نعانى فى مصر من شراء الأصوات بالزيت والسكر وبمبالغ نقدية، استغلالا لفقر واحتياج شريحة كبيرة من المصريين الأقل تعليما ووعيا، فإن الدولة الأعظم فى دفاعها عن الديمقراطية، والتى تشن الحروب من أجل تطبيقها وإسقاط نظم الحكم الديكتاتورية- تفعل ما هو أكثر جرما فى حق شعبها، فالانتخابات الأمريكية هى الأكثر تكلفة فى العالم. ولقد نظم القانون الأمريكى منذ عقود طرق تمويلها ووضع ضوابط لكيفية مراقبة إنفاق أموال التبرعات الأنتخابية، إلا أن تغيرا مهما طرأ على ذلك بصدور حكم قضائى فى يناير عام 2010 يعطى الحق للشركات الكبرى بالإنفاق كيفما تشاء، دون أن يحق للحكومة تحديد هذه المبالغ التى تنفق لدعم أو انتقاد المرشحين السياسيين.
وفى مارس 2010 قضت محكمة استئناف فيدرالية أن بإمكان لجان العمل السياسى PACs (منظمات تنشأ لجمع تبرعات الأفراد والمؤسسات التابعة لجماعات مصالح معينة، وتقوم بتوجيه هذه التبرعات لمساندة المرشحين الداعمين لها) قبول الهبات غير المحدودة طالما أنها لا تنسق مع حملة انتخابية أو حزب سياسى ولا تكون موجهة منهما. وأدى الحكمان إلى ظهور ما يعرف داخل الأوساط الأمريكية بـ«سوبر باكس» التى يُسمح لها بجمع مبالغ غير محدودة من الأموال من المانحين، تستخدم للترويج لمن تؤيده من المرشحين ولمهاجمة خصومه السياسيين.
وتعاظم دور السوبر باكس مع ارتفاع تكلفة الحملات الانتخابية للمرشحين للرئاسة، مما أدى لحدوث انقسام فى الأوساط الأمريكية بين مؤيد ومعارض لعملها، فالنشطاء من جماعات «احتلوا وول ستريت»، الذين يحاربون الرأسمالية المستغلة- يعارضون ذلك بشدة ويرون أن المبالغ الضخمة من المال السياسى، والتى تنفق فى الانتخابات، تأتى أساسا من دوائر المال والأعمال، وتجعل أجندة المرشحين بعيدة كل البعد عن احتياجات الناخب الأمريكى العادى، ويحول الديمقراطية لنظام حكم يعبر عن مطالب ورغبات الأغنياء فقط، فى حين يرى المؤيدون أن الدعم المالى لمرشح أو قضية من اختيارهم هى شكل من أشكال حرية التعبير التى ينص عليها الدستور الأمريكى.
إن ما يحدث فى أرض العم سام، ويناقش فى العلن يحدث هنا، ولكن لا يناقش، الأمر الواقع يؤكد أنه لا يمكن لمرشح فى أى انتخابات أن يفوز دون إنفاق على حملته الانتخابية، سواء كان هذا الإنفاق من ماله الخاص أو مال مؤيديه أو أصحاب المصالح الذين تتقابل أهدافهم مع أهدافه، وفى الانتخابات الرئاسية الأمور أكثر تعقيدا وتشابكا، نظرا لارتفاع تكلفتها، وأيضا ما يترتب على نتائجها من تغير فى أسلوب وأدوات الحكم، وهو ما قد يؤثر على الكثيرين، ومنهم أثرياء وأصحاب المصالح.. راقب إنفاق الحملات الانتخابية الرئاسية.. راقب مؤيدى مرشحى الرئاسة لتعرف كيف ستحكم مصر فى الفترة القادمة، ولا عزاء لديمقراطية الفقراء.