كتاب 11
كنت عاقاً لأمي ولكن .. قصة حقيقية
إنها قصة حقيقية أعلمها علم اليقين، فقد كنت أحد أبطالها، فهي قصتي مع أمي، التي كنت عاقاً لها، ولكن .. ما عصيتها يوماً إلا لأني كنت أحبها، وها أنا اليوم أطرح قصتي علها تكون نبراساً لإبن عاق أمه، فتضيئ له الطريق، ليسلك مسلكاً وينتهج منهجاً آخر في طريق النور، حتى ترضى عنه، فمجرد رضاء الأم متعة للإبن لا تعادلها متعة، ورسم السعادة على شفتاها رغبة لا يشعر بها إلا الإنسان السوي، وتلك قصتي أقصها عليكم بكل ما فيها من متناقضات وآلام نفسية عصيبة مررت بها في علاقة خاصة جداً مع أمي.
بداية لم تختلف علاقتي بأمي، عن علاقة أي إبن بأمه، بيد أني في وقت ما، زاد إرتباطي بها، لدرجة أنني كنت عاقاً لها، ليس لأنني أكرهها ! بل لأني أحببتها، فقد كنت أمام أحد خيارين، الأول أن أحاول نيل رضاها، في مقابل خسارة وجودها ! والخيار الثاني أن أنال سخطها في مقابل أن أكسب وجودها ! تلك كانت نهاية علاقتي بأمي، علاقة دامت لقرابة خمس سنوات، كنت فيها ولد عاق لأمه !
لقد كنت أمام أحد خيارين كما ذكرت، وقد إخترت الخيار الثاني، وهو أن أكون عاقاً لأمي، تنزل كل يوم غضبها علي، في مقابل أن أكسب وجودها، تلك قصتي بإختصار شديد، وتلك كانت معاناتي، في علاقة روحانية خاصة، آذتني فإرتضيت بالأذى مقتنعاً، لقد كنت سجيناً لظروف لم أختارها، وكانت قضبان سجني غير موصدة، بشكل يسمح لي بفتحها والخروج منها إلى عالم الحقيقة، لكني لم أفعل، وبقيت خلف أسوار وقضبان كذب ووهم، وفضلت أن أكون عاقاً لأمي، أسعد بدعائها وغضبها علي ! كنت إنتظر غضبها علي بفارغ الصبر، شغوف لنهرها لي وعتابها اللاذع، الموجهه لإبن خرج عن نص طاعة الأم ! تلك كانت نهاية قصتي مع إمي، كانت نهاية مؤسفة، لم ترضني، وأيضاً لم ترضها، ففي اللحظات الأخيرة، نادتني إلا أنها لم تجدني، وفي الوقت ذاته، ناديتها إلا إنني لم أجدها.
تفاصيل الحكاية :
كانت علاقتي بأمي كعلاقة أي إبن بأمه، يبحث عن رضاها ويحاول إن يستجديه، وكنت أول إخوتي أثناء الطفولة المبكرة، الذي إنتبه لمعرفة شي إسمه عيد الأم فكنت أجلب لها الهدايا، وأسعد لمجرد إبتسامه منها.
إلا أن تفاصيل علاقتي بإمي بدأت في التغيير يوم وفاة أبي رحمة الله عليه، فقد كانت وفاته صدمة لأمي، فقد سقط فارسها من على حصانه، في بئر الموت، سقطة لن يعود بعدها مرة أخرى، ومنذ ذلك اليوم بدأت معاناة أمي، وكانت أول آلامها أن أصيبت بمرض هو عبارة عن نزيف على شبكية العين، جاءها نتيجة الحزن وكثرة البكاء، بيد أن هذا المرض، بدأ رويداً رويداً، يذهب ببصرها إلى النهاية، في غضون حوالي شهرين فقط بعد وفاة أبي، حتى فقدت بصرها بالكامل، لقد أخذ المرض اللعين نور عينيها، بيد إنها ما بكت أو حزنت يوماً على قضاء الله لها، فقد كانت سعيدة راضية، تمتلك من الإيمان قدراً ساعدها على مواجهة تحديات كثيرة، وكانت بالنسبة لي مدرسة في العزم والمثابرة، والمواجهة مع الحياة أياً ما كانت التحديات.
إلا أن آلام فراق إمي لأبي، لم تقف عند هذا الحد، فقد أصيبت بمرض آخر، مما إستدعى ذهابها إلى المستشفى، وهناك قرر الأطباء حجزها، حتى يتوصلوا إلى معرفة نوع مرضها الجديد، وفي اليوم الثاني لها في المستشفى، ذهبت لرؤيتها، بعدما أنهيت يوماً جامعياً، فقد كنت وقتها لازلت طالباً في الجامعة، وفي هذا اليوم العصيب، قالت لي أمي إن المستشفى قد إستدعت أحد الأطباء لمباشرة حالتها، وكان أسوأ ما في الأمر، أن الطبيب الذي إستدعته المستشفى، كان صديقاً للعائلة، والعائلة جميعها تعلم أن هذا الطبيب متخصص والعياذ بالله تعالى في أمراض السرطان، وهنا جاء تخوف أمي من إحتمال إصابتها بهذا المرض اللعين !
ذهبت بعدها للطبيب المباشر لحالتها في المستشفى، لأقف على حقيقة أمر إستدعاء طبيب الأمراض السرطانية، فإكتشفت أن طبيبها في المستشفى كان أحد أصدقائي، وكان إسمه “شريف الخواجة” ولم يكن يعلم إن تلك السيدة هي أمي، ولكن بعد أن علم وجدت وجهه قد تغير ! ولم أعرف السبب، ثم بدأ يستجمع قواه ليخبرني بحقيقة مرض إمي ! فقد أصابها مرض سرطان الدم، ولم تكن تلك الصدمة فحسب، فالصدمة الأكبر كانت في الخبر المشؤم الثاني، فقد كانت أمي في المرحلة الإخيرة من المرض ! صدمتان كانتا أشبه بكابوس دام معي وقت طويل، وراحت رأسي تفكر في الأمر، وكيفية مواجهته، وكيف سأتصرف حيال إمي وإخوتي وأهلي وكل أقاربي، وهل أبوح بالخبر، أم ألتزم الصمت، وكيف سيكون رد فعل إمي إن علمت بخبر المرض ؟
ثم سألت صديقي الطبيب، سؤالاً مباشراً، كم من الوقت ستعيش أمي، فقال : أقل من عام واحد ! فسألته وما هي إحتمالات إن تعيش فترة أطول، فقال : هذا أمر يحتاج معجزة من السماء ! فقلت لصديقي الطبيب، أريدك إن تعلم أن الله سيحقق معجزته !
عقدت العزم وقتها على عدد من الأمور، وعرفت ما يجب علي فعله، وكانت قراراتي كالآتي :
أولاً/ طلبت من الطبيب أن لا يخبر أمي أو أي شخص آخر، بحقيقة المرض اللعين ووصفه.
ثانياً/ أن تكون حقيقة مرض أمي، سر لا يعلمه إلا أنا ومن يشرفون على علاجها.
ثالثاً/ إتخذت قراراً آخر وهو أن تكون مباشرة طبيب مرض السرطان، معي أنا بشكل مباشر، على إعتبار أنها تعاني من فقر في الدم فقط ! وليس مرض سرطان الدم.
رابعاً/ أن تعلم أمي أن طبيب السرطان هذا، هو أفضل من يتابع حالات أمراض فقر الدم، وأن تخصصه لا يقف فقط على أمراض السرطان.
خامساً/ أن أكون ملازماً لأمي قدر المستطاع، خشية إن تعلم بحقيقة مرضها، وكان لزاماً علي أيضاً، أن أقوم بملازمة كل من يشرف أو يقوم على علاجها، حتى لا يتفوه أي منهم بكلمة قد تتسبب بمعرفة حقيقة المرض سواء لأمي أو لأي شخص آخر.
علمت بعد إصابة إمي بسرطان الدم، إن الله جعلها تفقد بصرها أولاً، حتى لا تعرف بحقيقة مرضها العضال، فحتى إن وجدت النشرات الطبية الخاصة بالأدوية التي تتناولها، فإنها لن تتمكن من قراءتها، بسبب فقدان البصر ! وبما إنني سألازمها، وسأكون أداة الوصل بينها وبين طبيبها، فإن هذا الوضع سيجعلني الوحيد أمامها، الذي يعرف حقيقة مرضها وليس أحد آخر، فحتى إخوتي لم يكونوا على دراية بحقيقة المرض.
إلا أن حقيقة وضعي الجديد، وتواصلي مع الطبيب المشرف على علاج أمي، جعل من أمي تكثر لي الأسئلة في محاولات منها لإستدراجي لأخبرها بأن مرضها ليس بالبسيط ولتعرف حقيقته، إلا أنني كنت حريصاً على هذا السر مهما كلفني الأمر.
بيد أن أمي غيرت من معاملتها إلي، بغية أن تعلم من خلال رد فعلي عليها، بحقيقة مرضها، فكانت لها قرارات تعسفية ضدي كثيرة، فإن إرتضيت بها فستعلم أني ما إرتضيت إلا لعلمي بأنها قد أصيبت بمرض خطير، وإن رفضتها وكنت عاقاً لها، فستعلم أني ما عصيتها إلا لعلمي بأن مرضها بسيط ! لذلك إخترت أن أكون عاقاً لأمي، فعقوقي لها كان دليلاً مباشراً لها، أنها ليست مصابة بمرض موت، وإنما مرض عادي، وبالتالي تحسنت حالتها النفسية رويداً رويداً، وإنعكست حالتها النفسية على حالتها العضوية، ولكن كان ثمن تحسن حالتها، هو أن أستمر في رفضي وعصياني لها ولقراراتها التعسفية ضدي.
كانت ولازالت هناك حقيقة آمنت بها، وهي أن المرض النفسي أشد خطراً وتأثيراً على الإنسان من المرض العضوي، فإن إستقرت الحالة النفسية للإنسان، لكان ذلك سبباً للقضاء على أي مرض عضوي أياً كانت خطورته، إنها نظرية آمنت بها، وصدقتها وبالتالي قررت أن لا تعلم أمي بمرضها.
إستمر الصراع النفسي بيني وبين أمي لقرابة سنوات خمس، إستطاعت هي خلال تلك الفترة التغلب على مرضها اللعين، وتحققت المعجزة للتتجاوز حياتها فترة العام الواحد وعاشت بعد المرض اللعين للقرابة الخمسة أعوام، وكانت في طريقها للقضاء على الداء اللعين، حتى جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ! ففي نهاية العام الخامس لمرضها، أصابني الدور لإداء الخدمة العسكرية !
عذاب الضمير، وقهر الرجال وقلة الحيلة والرغبة في اللقاء الأخير والخلاص من مسؤلية أثقلت كاهلي، جميع ما سبق كانت قضبان من حديد، كُنت حبيسها، منذ اليوم الأول لي في أداء الواجب تجاه الوطن، ولكن ماذا عن أمي، وكيف ستعيش بعد إن تركتها، وكيف الوضع لو علمت بحقيقة مرضها ! وكيف لو توفاها الله، دون أن تعلم أني ما كنت يوماً عاقاً لها، فقد كنت أحبها، وكان عصياني لها شهادة مني لها، على تحسن صحتها، ولكنني في واقع الإمر كنت عاقاً لأمي، وقد كان سر مرضها على كاهلي ثقيلاً مريراً، فما كان مني إلا أن وضعت المسؤلية، على عاتق محمد وهو أخي الأصغر، فأخبرته بحقيقة مرض الأم، وكان الخبر بالنسبة له، بمثابة الطامة الكبرى التي وقعت على رأسه، لكنني كنت في موقف المضطر، فأنا لا أعلم في أي وقت ستتاح لي فرصة لقاء أمي مرة أخرى ! بعدما ذهبت لأداء الخدمة العسكرية ! وسألني أخي الأصغر قائلاً : كيف لي أن أتعامل معها بعد الآن ؟ فقلت له : كما كنت تتعامل معها من قبل معرفتك بحقيقة مرضها، وإياك أن تعرف أمك منك بحقيقة المرض، أو أن يعرف أي من إخوتك بالأمر، أو أي شخص كان، فإن إنتشر الخبر، فإعلم أن الأم لن تتحمل ما سوف تسمع، وإن ساءت حالتها النفسية، فإن الموت منها يقترب، بعدها تركت أخي، وذهبت لإستكمال أداء الواجب تجاه الوطن.
في اليوم السابع لي وأن في الخدمة العسكرية، في أحد مراكز التدريب، جائني صديق لي كان ضابطاً بالجيش المصري، وكان إسمه “أيمن الشرقاوي” وإستطاع الحصول لي على تصريح أجازة لمدة ثلاثة أيام، فسألته عن أمي وصحتها، فأجابني أنها بخير، وأنه قد حصل لي على تصريح الأجازة، حتى أتمكن من رؤيتها، نظراً لمرضها وأنها تريد رؤيتي، وبالفعل تركني صديقي، ثم غادرت وحدتي العسكرية، متوجهاً إلى أمي لزيارتها، فقابلتني الشرطة العسكرية لسوء حظي، وسحبوا مني تصريح الزيارة، وأمرت منهم أن أعود إلى وحدتي العسكرية، وهنا كانت المفاجأة :
فعندما دخلت إلى مركز التدريب العسكري، إذ بأفراد الأمن يسألونني عن إسمي فأجبتهم، فقالوا لي أنت الشخص الذي توفيت والدته صباح اليوم، هنا كانت الصدمة ! فقد حدث ما كنت أخشاه، لقد ماتت أمي بعد أن تركتها، وإنهرت من الحزن والألم، وسألت نفسي ماذا لو ذهبت إليها الآن هل سأتمكن من رؤيتها قبل إن يتم دفنها ؟ وسألت نفسي كيف ماتت ؟ فهل ماتت بعد أن عرفت حقيقة مرضها ؟ أم أن غيابي عنها كان سبباً في وفاتها ؟
لقد كان بقائي بجانب أمي دافعاً لها على التمسك بالحياة، حتى وإن كنت عاقاً لها، فما كان عقوقي لها إلا لمصلحتها، بعدها وجدت مركز تدريب السلاح يعطيني تصريح أجازة آخر، لعلي أتمكن من رؤيتها قبل موعد الدفن الأخير، أو أتمكن من الصلاة عليها، وخرجت من مركز التدريب في المرة الثانية عازماً على الذهاب إليها مهما كلفني الأمر، فلن أسمح لأحد بأن يمنع زيارتي لها هذه المرة، إلا أن الوقت كان بكل أسف قد فات ! فلم أتمكن من إلقاء نظرة أخيرة على أمي، كما فتتني الصلاة عليها، ولم أحضر حتى دفنها ! وكان كل ما فعلت، أن وقفت في سرادق العزاء !
تلقيت العزاء في إنسان، لم يعلم حقيقة أمري، ومات دون أن يعلم كم أحببته، لقد رحلت أمي إلى مثواها الأخير، رحلت وأنا عاق لها، عاصياً لأغلب طلباتها، ولكن كان لدي شعور خفي، بأنها قد ماتت وهي عني راضية، كان لدي شعور بأنها كانت على دراية بمدى حبي لها، كان لدي شعور أنها حتى وإن ذهبت إلى الدار الآخرة فإنها ستعلم لماذا عاملتها بقسوة، وستعلم كم أحببتها، أكثر من حبي لنفسي، فلم أكن أبالي بغضبها أو بدعائها علي، كان همي الأول أن أعطيها الشعور بأنها بصحة جيدة، فالعامل النفسي كان مهماً وركناً أساسياً لها حتى تتغلب على مرضها.
لقد رحلت أمي دون إن أراها أو أشرح لها حقيقة الأمر، تلك الحقيقة التي لم أجرؤ يوماً على ذكرها في حياتها، فقد كنت دائماً متمسكاً بالأمل، فحتى وإن كانت أمي تحتضر، فما كنت سأقبل بفكرة رحيلها، وكنت سأظل على عهدي معها، قاسياً حتى تعلم أنها بخير وتتغلب على مرضها اللعين.
لقد رحلت أمي بعد أن تركتها وليس لأنها علمت بحقيقة المرض، فهذا ما علمته من إخوتي فيما بعد، فقد قالوا لي أنها قد ماتت منذ يوم تركتها، فقد ساءت حالتها النفسية، وماتت دون أن تعلم، بحقيقة مرضها اللعين، فكان أكثر ما آلمني، أنها قد ماتت بعد أن فارقتها، سألت الله الرحمة لها أولاً ولي ثانياً، فقد شعرت بتأنيب الضمير، نظراً لبعدي عنها، ولكني كنت مرغماً، في أداء واجب تجاه الوطن، وما كان لي أن أقدر على عدم تلبيته.
اليوم وبعد مرور سنوات عدة على وفاة أمي، أقول لها ما كنت يوماً عاقاً ولا سيئاً، فالله وحده يعلم كم أحببتك، أقول لها لم أبالي بغضبك علي بقدر ما كنت أبالي بأن أكون لكِ دافعاً على البقاء في الحياة الفانية، إسأل الله الرحمة لها، وأسأل الجميع الترحم عليها، وقراءة سورة الفاتحة لها، علها تكون لها سنداً ينفعها في آخرتها.