كتاب 11
المستقبل المصرى بين ناصر والسيسي
تدفع احتمالات صعود المشير عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم فى مصر، وما يجريه كثيرون من مقارنات بينه وبين جمال عبد الناصر، بالدولة المصرية نحو مستقبلات عدة تثيرها قدرة الرجل على اختيار طريقه الأمثل من بين دروب عدة ممكنة تتخلط ما بين تجربة ناصر فى خطوطها الأساسية، وبين متطلبات اللحظة فى ضغوطها الراهنة.
أحد السيناريوهات الممكنة، وهو الأقل احتمالا، أن يسير الرجل فى الطريق الناصرى نفسه، وهو خيار مشكوك بنجاحه، لأن مثل هذا الطريق فرضته ظروف وصاغته حوادث، وأطرته سياقات أحاطت بمصر آنذاك اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، ومن ثم يصعب تكراره إذ بات العالم يخلو من كتلتين يتوجب الحياد بينهما، ومن استعمار يجب الصراخ فى وجهه طلبا للتحرر منه، كما بات الإقليم العربى من التمزق بفعل الطائفية والعرقية على نحو يستحيل معه إطلاق صيحات توحيدية تبدو الآن ليس فقط صعبة بل وأيضا ساذجة، وأخيرا باتت مصر نفسها غير مصر التى كانت، فلم تعد الأغلبية فلاحية وعمالية، ولم تعد النخبة قانعة بالعدالة الاجتماعية بديلا عن الحرية السياسية، ولا حتى العدالة الإجتماعية نفسها ممكنة التحقيق بالطريقة التى مارسها ناصر، فلا التأميم صار مقبولا فى الداخل أو الخارج، ولا صيغة الإشتراكية الخاصة أو رأسمالية الدولة قابلة للإستعادة والتجدد. والأغلب أن الرجل من الحصافة السياسية لأن يفهم تلك الحقيقة، فلا يسير فى هذا الطريق إلى نهايته، وإلا أضاع على مصر من الوقت أو الجهد الكثير مما لا يتوافر لها لممارسة التجربة أو تحمل المقامرة.
والسيناريو الثانى هو التكيف السلبى مع الظاهرة الناصرية، بمعنى أن يكون هناك ناصرية بلا ناصر، أى صعود كارزمى لقائد وطنى، تسير خلفه الجماهير وتمنحه ثقتها، فيقودها باتجاه المسالب التى غالبا ما تقود إليها كل ظاهرة كاريزمية من حيث القضاء على المؤسسات، وإضعاف النخبة السياسية، وكذلك حصار البناء الحزبى، مع الرفض العميق لفكرة التعددية السياسية تعويلا على العلاقة الخاصة بين القائد وبين الجماهير، التى يستطيع خطابها مباشرة، والحصول على تأييدها من دون شروط.
وفى الوقت نفسه العجز عما قام به عبد الناصر من إجراءات جذرية لتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء دولة الرعاية التى يصعب استعادتها الآن مع الانفجار السكانى الكبير، وضعف موارد الدولة الإقتصادية، وهيمنة التوجهات الرأسمالية على البناء الإقتصادي بما لا يسمح بتأميمات جديدة أو سيادة ظاهرة العولمة بما لا يسمح بانغلاق اقتصادى فى مواجهة السوق العالمى، الأمر الذى يعنى فى النهاية وجود نزعة أبوية من دون رعاية أبوية، أى ناصرية سياسية من دون مشروع عبد الناصر الإجتماعى، وربما دون مشروعه التحررى القومى التى لم تعد مقوماته متوفرة ولا شروطه جاهزة.
أما السيناريو الثالث فيتمثل فى التكيف الإيجابى مع المشروع الناصرى، من خلال التأكيد على مقومى العدالة الإجتماعية، والإستقلال الوطنى، بما يفترضه ذلك من فهم عصرى للعدالة الإجتماعية، يتسم بالإنفتاح على السوق العالمى، وتنمية القدرة على المنافسة فيه كبديل للإنغلاق فى مواجهته، وكذلك التوجة نحو بناء اقتصاد وطنى متقدم تشرف الدولة عليه حتى لا يقع أسيرا للإحتكارات الداخلية والدولية، أو يصير تابعا لتحالفات وقوى سياسية تفرض وصايتها على اتجاهات وحدود تطوره، ولكن من دون أن تقوم الدولة بالتحكم فيه، أو تصبح هى نفسها قيدا على تطوره.
وفى المقابل يفترض هذا السيناريو تلاشى العناصر السلبية فى المشروع الناصرى، خصوصا تلك المتعلقة بالإدماجية السياسية الرافضة للتعددية، والتمدد العسكرى فى المجتمع المدنى، وكذلك التجاوز الدائم للنخبة السياسية خارج دائرة السلطة الكارزمية، والتغول المستمر أو حتى الإقصاء الكامل للبنية الحزبية خارج إطار الدولة الرسمية وبيروقراطيتها العريقة.
وبالقطع يجسد هذا السيناريو الأخير المستقبل الأفضل لمصر، ولكن تحقيقه يتوقف على قناعة وربما إيمان الفريق السيسي بأنه مكلف ببناء دولة مدنية ديمقراطية حقيقية، تنتمى كليا للمستقبل، وأن المصريين اختاروه لهذه المهمة ثقة فى قدراته وإخلاصه ووطنيته، وليس لعسكريته، أو رغبة منهم فى استعادة دولة ما بعد 23 يوليو التى أدت دورها آنذاك فى تحديث مصر من دون دمقرطتها، فيما المطلوب اليوم، وبحكم منطق العصر، هو بناء دولة عصرية تجمع بين التحديث والديمقراطية.