كتاب 11

11:09 صباحًا EET

السايس والسيسي

السايس لغير المصريين ولأمثالى ممن جاءوا من الصعيد وخارج عالم القاهرة، هو الرجل الواقف فى الشوارع الكبرى

ويدعى ملكية رصيف الشارع بوضع اليد، يقيم على الرصيف كشك سجائر ويسمح لك ان تركن او تصف سيارتك فى الشارع صفا أول وصفا ثانيا، ويأخذ منك المفتاح ويفرض عليك إتاوة انت تبررها لنفسك كبقشيش أو إكرامية. وهو ظاهرة قاهرية ليس لها مثيل فى العالم بأسره.

السايس ظاهرة ونمط حياة، ظهرت كثيرا فى الأفلام المصرية، أشهرها فى فيلم احمد زكى المعروف اضحك الصورة تطلع حلوة، حيث يتقاسم الباعة الشارع على الكورنيش بوضع اليد، ولا يستطيع أحدهم ان ينافس الآخر فى حتته. والفيلم معروف بمشاجرات فتوات الأرصفة. السايس هو نظام كامل للسيطرة بوضع اليد، ولا ينطبق فقط على الرجل الذى يركن لك العربية وانت تدفع له الاتاوة والتى تبررها لنفسك بأنها إكرامية او مساعدة لغلبان. السايس أيضا هو الرجل الذى سيطر على حمام المطار بوضع اليد ليمنحك ورقة تنظيف وتمنحه البقشيش. كنت دائما أسأل نفسى كيف خصص هذا الرجل مرفقا عاما مثل دورة مياه المطار وحولها لقطاع خاص، وكتبت عن هذا فى كتابى عن الإعلام والسياسة فى العالم العربى بتنظير اكثر عمقا لا يسمح به هذا المقال، ويومها كنت أناقش مشكلة توريث الحكم فى مصر، وقلت ان وضع اليد لا يورث. اى انه بموت السايس الأصلى لا يحق لابنه ان يسيطر على الرصيف او على حمام المطار، حيث بوفاة السايس يظهر فتوة اخر يسيطر على المنطقة، ولكن السايس يستطيع توريث وضع اليد لابنه فى حياته.

لم تكن لدى المجتمع الجرأة فى مواجهة التوريث، لأن التوريث كان ظاهرة اجتماعية فى القضاء والشرطة والجامعات والمهن الأخري. ابن الضابط ضابط، وابن القاضى وكيل نيابة وابن أستاذ الجامعة معيد.. الى آخر هذه المشاكل التى تعكس أخلاق وقيم المجتمعات المتخلفة المفرغة من الأخلاق بمعناها الحقيقى الدينى وأخلاق المجتمعات المتقدمة، حيث الكفاءة وسيطرة القانون هما القول الفصل فى كل أمر. وللحقيقة مبارك ربما هو الوحيد فى الطبقة اللى فوق الذى فشل فى التوريث بينما نجح فيه كثيرون فى ذات المجتمع المبنى على القرابة وعلاقات الدم لا على العلاقات الفكرية والكفاءة.لا أريد ان أطيل فى شرح نقطة فسرتها أكثر من مرة على مدى سنين طويلة ويستطيع القارئ متابعتها فى سياق آخر.

المهم هنا هو أن السيسى او حتى حمدين صباحى او أى رئيس قد تختاره مصر، سيكون أول تحديات هذا الرئيس هو فك الارتباط بين دولة وضع اليد ودولة القانون.

نسى الكثيرون حتى الآن ان مجتمعنا فى حالة ثورة وظن البعض ان الثورة على مرسى وجماعة الاخوان تعنى عودة نظام مبارك. المجتمع الثورى هو مفرمة لأنظمة فشلت فى تلبية طموحاته. الثورة قامت على نظام مبارك وفرمته وانتهى كنظام حكم، وبعده أكلت الثورة نظام الإخوان الذى حاول انتاج نظام مبارك وعرفه المصريون بذكاء وخفة دم على انه مبارك بدقن.

الثورة المصرية فى موجتيها الكبيرتين قضت على قبضة سلطوية وضع اليد سواء كان السايس متخفيا فى زى عسكرى أو مختبئا خلف عباءة دين هو منه براء. مبارك كان «سايس» ومن بعده مرسى كان «سايس» بدقن.

لتوضيح هذه النقطة اكثر، نظام وضع اليد كان نظاما كاملا، فلم يكن السايس هو الرجل الفقير الذى يفرض إتاوة على الرصيف، بل كان نظام الإتاوة أيضا يلبس بدلة ثلاث قطع احيانا وتراه فى حفلات الكوكتيل. بدلة قد تكون من لانفا او بيير كاردا، او رالف لورين لكنه فى النهاية سايس. ليس سايس ركن عربيات فى الشارع ولكنه مسقعاتى أراض او صاحب توكيل حصرى لشركات اجنبية، او توكيل حصرى لربنا كما فى حالة الجماعات الدينية الذين يظنون انهم وحدهم الذين يعرفون الله وغيرهم كفار حتى ينضموا لهم او يدفعوا الإتاوة الدينية.

مصر ليست قادمة من عالم روايات نجيب محفوظ، حيث تنتقل الحارة من فتوة الى فتوة ولا ان مصر قادمة من عالم أفلام فريد شوقى وعادل ادهم فى رائعة محفوظ، الشيطان يعظ، حيث تكتشف وداد ومعها زوجها شطا ان وجودهم تحت رحمة الفتوة الشبلى ليس أفضل حالا من وجودهما فى ظل رعاية الفتوة السابق الدينارى، حيث قال الرجل لزوجته، على ما أذكر ما معناه، إن الشبلى ليس أفضل من الدينارى يا وداد. مصر أو وداد لن تنتقل من فتوه الى سيطرة فتوة آخر هذه المرة. مصر حرة وستخرج من عالم الفتوة وعالم وضع اليد وعالم المكافأة على قبول الذل الى عالم دولة القانون والمساواة وعالم الكفاءة . وتحدى السيسى وكذلك حمدين صباحى هو ان يسيرا مع الموجة المناهضة لعالم وضع اليد وإرساء دعائم دولة القانون ودولة العيش والحرية والكرامة الإنسانية.

يظن البعض ان شباب الثورة مستمرة هم مجوعة من المراهقين، ورغم مراهقة ما يفعلون كل يوم إلا اننى ارى ان استمرارهم فى الثورة هو رغبة منهم للعودة الى ثمانية عشر يوما أحسوا فيها فى يناير وفبراير 2011 بأن لهم كرامة، وأن المصريين متساوون كما كانوا فى ميدان التحرير وميادين مصر الأخري. نفس الشعور أحسوا به فى ثورة 30 يونيو 2013. يريدون ان يقبضوا على هذه الأيام كالقابض على الحلم. وهذا امر مشروع ولكنهم يفعلونه بمراهقة وعنف. لكى نوقف هذا التثوير لابد ان نمنحهم الأمل بأن الإحساس بالكرامة والمساواة أمر ممكن حدوثه وسيحققه الرئيس القادم بأن يجعل دولة السيسى اهم من دولة السايس.

لا حياة لمصر مع وجود السايس كنمط حياة. لو وعد السيسى فقط بالقضاء على السايس فى المائة يوم الاولى من حكمه واعتبر ان هذا هو برنامجه بالمع نى الواسع للقضاء على عقلية السايس الدينى والقضاء على السايس فى الجامعات وفى القضاء والشرطة وفى دولاب الدولة وفى عالم تسقيع الأراضى وغلق المبانى فى انتظار أسعار بيع اعلى او سايس احتكار السلع وسايس الثقافة والإعلام، فبكل تأكيد سيكون له صوتى الانتخابى. صوتى سيكون للسيسى لا للسايس طبعا.

التعليقات