مصر الكبرى
إبراهيم الزيني يكتب … صراع التحقيق ضد التصديق
التصديق والتحقيق هما آليات إنتقال المعلومة بين الناس , ولكنهما في صراع أبدي ما دام هناك معلومة تريد الإنتقال ..
و السؤال .. هل تحتاج المعلومة إلي وسيلة لكي تنتقل من شخص إلى آخر ؟ الجواب : بالطبع نعم .
فالقوانين الكونية التي نعيش في مجالها علمتنا أنه لا يتحرك ساكن إلا بوجود قوة دفع وإنتقال, و المعلومة عند صاحبها هي شيئ ساكن ، لو أراد تحريكها من عقله إلى عقل فرد آخر ، فلابد له من إستخدام آلية ووسيلة لتنفيذ ذلك . لتصل وتستقر في عقل إنسان آخر .
أولا .. آلية التصديق :
يستخدم هذه الآلية الأشخاص الذين لا يملكون وسائل البرهان على صحة معلوماتهم ، و لا يعتمدون أسلوب الحوار والمناقشة في طريقتهم وقناعاتهم .
لابد لمستخدي هذا الإسلوب ( التصديق ) أن يربوا أجيالهم عليه منذ الصغر ، وعندهم من الأدبيات والطرق ما يساعدهم على ترسيخ هذا الإسلوب في وعي وإدراك المستمعين . وينشئوا أجيال عديمة العقول والحس العلمي ، ولكن تحت شعار " الحفظ على هيبة المعلم ".
مثال ذلك : لكي يضمن المتكلم تصديق المستمع دون طرح الأسئلة المنطقية والمراجعة ، يصنع لنفسه هالة تقديسية في روع المستمع ، أشكال هذه الهالة ( كبر السن ، غزارة العلم ، رجاحة العقل ، علو المقام ، .. وإلخ ..
بهذه الهالة المقدسة يستطيع أن يتجنب المراجعة والأسئلة المنطقية . وهذا الإسلوب لا يسمح للمستمعين والمتعلمين إلا بالأسئلة التوضيحية والإستفسارية فقط لا غير .
فيضيق وعي المستمع ويموت عقله على مر السنين ، ويربى على التلقين والحفظ والتكرار ، والفرح بما قاله المعلم ، وإعتباره العلم المطلق والإنشغال بمديح المعلم والتنافس على منح المعلم فروض الطاعة والتبجيل والولاء المطلق .هكذا تدور الفاعليات في هذا النسق من المجتمعات .
فكانت العواقب مدمرة حيث فقد المعلمون القدرة على إستخدام عقولهم لعدم تعرضهم للأسئلة والمراجعات .. مثل المدرس الذي ظل عمره يشرح لطلاب يصدقونه وهم صامتون .
وأيضا وقف نمو علمهم وفقده المرونة وتخشب وتكلس آلياته ولم تعد قادرة على مواكبة تقدم العلوم والحضارات الأخري . وخرجت من التاريخ الإنساني ، وحصرت نفسها في تكرار الماضي وتلقينه وتحفيظه للأجيال . والترهيب من الخروج عليه . والتطلع لغيره .
والأهم هو إصابة المجتمع بالعقم والتكلس وعدم المقدرة على التفكير في القضايا المتجددة بإستمرار ، فيلجأ للحضارات الأخرى ليستمد منهم شتى العلوم بل وأسباب الحياة ( الطعام والدواء والسلاح … إلخ ..
مع وجود آليات الردع والترهيب ، لمن يحاول السؤال للتحقيق ، من محاربة عقل الإنسان وإحتقاره ، وربط العقل بالهوى الباطل وبالشهوة وحب الإنفلات والإنحلال الخلقي والهروب من الواجبات المقدسة . وقمع وتخوين المبدعين والمتطلعين للتجديد والتطوير .
و يعتمد هذا الإسلوب الحديث الخطابي ذو الإتجاه الواحد لتدفق المعلومات داخل المجتمع وينعكس بطبيعة الأمر علي شكل المجتمعات التي تنتهج هذا النهج مثل :
مجتمعات الجمع والصيد . المجتمعات البدوية ، القبائلية . مجتمعات الزراعة البدائية . العائلية . مجتمعات اليدوية والحرفية البدائية .
أما النظام السياسي المناسب لهذه المجتمعات هو :
النظم المبنية على الحق الإلاهي للملك .النظام الملكي الوراثي القديم الغير دستوري . النظام القبائلي ، حيث تتناحر القبائل ، لإستيلاء القبيلة الأقوى على الحكم . نظام حكم العائلات والأسر المتتالية والمنبثقة من نفس النسب .النظم الجمهورية الدكتاتورية والمركزية الشمولية …ونرى هذا في العصر الحديث .
ثانيا التحقيق :
يلقي هذا النمط المسئولية على المستمع ويحفزه على التفكير وإلقاء الأسئلة المنطقية وطلب الأدلة الموضوعية من المعلم أو قائل المعلومة . ويتبلور شكل آخر للحوار يسمى الحوار العلمي .
يلزم هذا النوع من الحوار والمناقشة جميع الأطراف بالعلم و الموضوعية و النسبية وتقبل إحتمال الخطأ ، والعمل على إختبار المعلومة دائما وأبدا ، وتنقبح المعلومات مع زيادة طرق الإختبار المتجددة .
يتربى الأجيال في هذا النمط على الثقة بالعقل ونمو القدرة على الإبداع وتحمل النقد والتجرد العلمي للبحث عن الحقيقة أينما كانت تمتلك البرهان على إثبات نفسها .
يسمح هذا الأسلوب بنمو وإزدهار المعلومة الصحيحة وإندثار المعلومة الخطأ ، مكونا بذلك جو متجدد وتوليد مستمر لأنواع متطورة من العلوم .
يشترك المعلمون والمستمعين في منظومة من الجدل والحوار البناء يدفع المجتمع في إتجاه الأفضل دوما .
أثناء الحوار الحر والمتنوع والمتعدد الأطراف والخبرات تتلاقح الأفكار وتتولد من بين أحشائها أفكار جديدة يعمل المتحاورون على رعايتها وتغذيتها بعصفهم الفكري .
تكبر وتنمو هذه الأفكار الوليدة وتنطلق محققتا نفسها ومجسدة لأحلام مجتمعها .
أما عن نوعية المجتمعات المناسب لها هذا النظام :
مجتمعات ثورة العلوم ( الثورة الصناعية ) والزراعة الحديثة .
مجتمعات الحداثة وثورة الإتصالات والمعلومات والمعرفة .
تسمى هذه المجتمعات نفسها مجتمعات الحرية والديمقراطية .
هذه المشاركة تهدف إلى فتح آفاق جديدة للحوار المجتمعي والبدأ في تغيير نمط تلقي المعلومة عند الأجيال .
مطالبا خبراء التنمية البشرية بالإنطلاق في خدمة مجتمعهم .. لتصحيح المسار