كتاب 11

09:55 صباحًا EET

«صباع الكفتة»: مصر التنوير أم مصر الجماهير؟!

 نهاية الإسلام السياسي في مصر، ممثلا في الجماعة الأسوأ تمثيلا له وأداء «الإخوان»، ليست نهاية القصّة؛ وإن كان رحيلهم انعطافة مهمة في المشهد السياسي العربي وليس المصري فحسب، الأزمة في مصر قبل أن تكون أزمة سياسية هي أزمة «وعي»، أزمة مكونات مجتمعية مترهلة جدا، صحيح أن «الشعبوية» السياسية والثقافية حالة سائدة في كل المجتمعات وطبيعية. لكنها ظلت، وهذا مكانها الطبيعي، مكونا صغيرا غير مؤثر.

هزم الإخوان في 30 يونيو (حزيران) برافعة شعبية كاسحة أولا، وبانقسام الإسلاميين وانقلاب «سلفي» مفاهيمي، ساهم في كسر هالة التقديس عن الإسلام السياسي ثانيا. ولعب الجيش بتكنيك عالٍ على بعث الروح القومية في نفوس المصريين، لكن عقب ذلك وقع الجميع في فخ «الشعبوية» ولغة الشارع وأفكاره وتصوراته ولغته ومخياله الغرائبي.

من يتابع الإعلام المصري في حديثه عن كل الأحداث التي أعقبت السقوط، يخرج بنتيجة مفادها أن الإعلام هو اللاعب الرئيس في بلد يحظى بإعلام جماهيري متابع بشكل مذهل، إلا أن الحالة باتت مقلوبة، تعيدنا إلى حالة الإعلام الموجه في الحقب والتجارب اليسارية، نظرية الهرم المقلوب؛ «الشعب» هو مصدر التلقي والإعلام مجرد ناقل أمين لهواجس الشارع، وليس أداة تنوير وضخ للوعي الذي يحتاجه الشارع في هذه المراحل الحرجة. بالأرقام على «يوتيوب» وعبر سطوع وبروز إعلاميين شعبويين يؤدون أدوارا تقترب من حدود التهريج نستطيع أن نرى هذا الانقلاب الشعبوي، لتصبح مصر رهينة الجماهير بعد أن كانت رائدة التنوير في حقب مضت.

تحول الشارع إلى سلطة جديدة مهيمنة وقارعة للنخب والأحزاب والإعلام، وقوة ضاغطة على خيارات الحكومة ورهاناتها، ومع الوقت ربما تحول إلى «فزّاعة» لكل من يريد الدخول في معترك حكم البلاد وإدارتها.

بالطبع نحن الآن في مرحلة دفع فاتورة «الربيع العربي» التي بدأت هذا العام في عدة مناطق، لكننا لم نتخيل هذا المد الشعبوي الطاغي الذي يجعل مؤسسات الدولة تسايره في منطقه ولغته وتناقضاته، وتحاول أن تتقدم عليه بخطوة في سباقه نحو تسطيح كل شيء، السياسة والاقتصاد والاكتشافات العلمية والحياة العامة.

دائما التحديات أمام الدولة والنخب والأحزاب السياسية لإبقائها في حدود حجمها الطبيعي.

التنوير ليس حالة مثالية أو نظريات شاقة. ببساطة، التنوير «وعي» مجتمعي يتيح الخيار للإنسان أن يتخذ موقفه مما يجري، أو كما عبر ديكارت ذات مرة: «خروج الإنسان من حالة القصور التي تجعله المسؤول الوحيد عنها، بسبب عجزه عن استخدام الفكر من دون قيادة الآخرين». استخدم عقلك بنفسك «هذا هو لب عصر التنوير» تمكين الأفراد في المجتمع من الاختيار الواعي، وليس الانقياد لفوضى الجموع والحشود.

ما يحدث الآن في مصر الدولة، هو جرس إنذار صاخب لضرورة الحفاظ على مفهوم الدولة ومؤسساتها، بعيدا عن الاستقطاب السياسي أو النزول للشارع، الحكومات تذهب وتجيء والنخب والمكونات السياسية تتأرجح صعودا وهبوطا، لكن أن تتأثر هيبة الدولة ومؤسساتها وتسقط في شراك «الشعبوية»، يعني دخولنا في مرحلة حرجة لا علاقة لها بمؤامرات الخارج أو استهداف البلد، أو حتى ما يريده الخصوم والمعارضة.

ما زالت الفرصة مواتية؛ فهذا التفويض المفتوح من شرائح عريضة من الشعب المصري للجيش، ودخول ترشح المشير السيسي على الخط كضامن لبقاء هذا الثقل السياسي، يعني أن المزاج العام المصري يريد عودة الدولة، لكن هذا المد الجماهيري دون رؤية واضحة وصيغة توافقية مع النخب السياسية، التي وإن كانت لا تشكل ثقلا في الشارع، لكنها وحدها القادرة على منح المشروعية السياسية، كما تمنح الجماهير الشرعية في الوقت ذاته، وبالتالي لا يمكن الخروج من الفراغ بين السلطة والجماهير الشاغر بغياب النخب أو تململها وترددها من عودة الدولة البوليسية/ الأمنية، لا سيما وأن هذه المخاوف يعززها عدم وجود مؤشرات على أي انفراجة اقتصادية قادمة رغم الاستقرار النسبي والدعم.

انقسام النخب السياسية والأحزاب المترهلة والحائرة، ساهم في تعميق الفجوة بينهم وبين السلطة من جهة، وساهم في تحويل المكونات الشعبية إلى نخبة مؤقتة تمارس دور «التسطيح» بأدوات وأقانيم التنوير: صحافة/ تلفزة/ فنون، عدا إلماعات ولمحات قليلة تتبناها مجموعات لديها المحتوى، لكنها دون جمهور حقيقي لمثاليتها ونخبويتها وموقفها المرتبك من الوضع السياسي.

الأزمة في مصر الآن ليست الإخوان، ولا تردي الحالة الاقتصادية، ولا تعقيدات المرحلة الانتقالية، التي حولت المشهد إلى حقل ألغام لأي حكومة مقبلة، وهذا قد يفسر حالة التردد في الترشح التي نشهدها، الأزمة هي أزمة «معنى» وطغيان الفكر الشعبوي، الذي يجعلنا – كعرب مفتونين بأم الدنيا – نبكي طويلا على مصر التنوير في مقابل مصر الجماهير.

التعليقات