كتاب 11

12:18 صباحًا EET

ثورة أم انهيار بيت قديم؟

بعد ثلاثة أعوام من تنحي حسني مبارك عن الحكم ومن ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011، والتي شاركت فيها من أولها إلى يوم التنحي، أجدني مختلفا كل الاختلاف مع معظم من كانوا معي في الميدان، فهم يتصورون أنهم أسقطوا نظام حسني مبارك، ولكن البيت المصري سليم، فقط نحن نحتاج أن نستبدل رجال مبارك بشباب الثورة الأطهار، وأن نستبدل الفاسدين في النظام السابق بالأنقياء من أبناء يناير. وربما نفس الرؤية سيطرت على من شاركوا في موجة 30 يونيو (حزيران) التي أطاحت بمحمد مرسي ونظام الإخوان أيضا، يرون أن البيت المصري سليم، فقط نريد أن يحل الوطنيون من ثوار يونيو بدلا من الخونة الذين كانوا يحكمون باسم التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية.

وعلى العكس من هؤلاء جميعا فإنني مقتنع بأننا لم نسقط نظام مبارك في يناير 2011 ولا نظام مرسي في 2013 بل إن البيت المصري كان آيلا للسقوط، فقط كان يحتاج «زقة» وينهار لوحده. ومن هنا يأتي اختلافي الجوهري مع بني وطني. الاعتراف بأن البيت قد انهار تماما لأنه معمار قديم انتهت صلاحيته يلزمنا ببناء بيت جديد، أما دعوى إحلال أطهار الثورة مكان أزلام مبارك أو وطنيي ثورة يونيو بدلا من خونة الإخوان فهذا عبث لن يؤدي إلى أي تغيير في مصر. الحقيقة حتى في حالة نظام الإخوان فهو لم يسقط بفعل 30 يونيو، وأعرف أن هذا سيغضب الكثيرين. سقط نظام الإخوان لأن الإخوان أقاموا دولتهم على الأنقاض، على نفس مؤسسات مبارك التي فشلت في 2011. الإخوان لم يحاولوا بناء بيت جديد. أقاموا خياما للإيواء على الأنقاض وشاهد الناس خدشا للحياء علنا فثاروا في 30 يونيو. البيت تهدم ونريد بيتا جديدا ونظاما جديدا، وإن توهمنا أن خيام الإيواء على الأنقاض دولة، سواء أنقاض مبارك أو أنقاض الإخوان، فنحن في انتظار مقلب كبير.
من هنا يكون التوصيف الدقيق لما حدث في مصر في 25 يناير 2011 وفي 30 يونيو 2013 قد ينير لنا الطريق في اتجاه التغيير المنشود الذي يأخذ مصر خطوة إلى عالم الحداثة مع بداية تنفيذ خارطة المستقبل المنشودة. فمثلا لو قلنا إن ما حدث في يناير كان ثورة أو إن ما حدث في 30 يونيو 2013 هو ثورة، بما تراكم لدينا من موروث مصري لمعنى الثورة، فمعنى ذلك أننا نريد إحلال نخبة مكان نخبة في حكم مصر، أو بالبلدي نريد أن نسكن ناسا مكان ناس. قد نسكن ناسا مكان ناس بالمعنى الحضاري والسلمي الذي رأيناه في ثورتي يناير ويونيو أو عن طريق الانتقام ونصب المشانق كما حدث في ثورات التاريخ الأوروبي رغم اختلاف المفهومين: الثورة باللغة العربية والـrevolution بالإنجليزية، ومعنى الكلمتين ودلالاتهما يختلف من سياق ثقافي إلى آخر.

موقفي هو أنه عندما خرجنا كمصريين إلى الشوارع لم يكن بهدف الثورة، بل لأننا كنا نعيش في بيت قديم منتهي الصلاحية، اسمه مصر، بيت آيل للسقوط في أي لحظة وكنا نتوقع وقوعه على رؤوسنا في أي يوم.. بدأ البيت في الانهيار يوم 25 يناير وينزل طوبة طوبة، وبدل أن ينهار البيت على رؤوسنا خرجنا إلى الشوارع من أجل تفادي الطوب المتساقط علينا من أعلى. نفس الشيء حدث في يونيو عندما هرب الناس إلى الشوارع تفاديا لسقوط الطوب من الأنقاض التي سكن فيها الإخوان وسموها دولة وأرادوا أخونتها. إذا كان البيت القديم قد تهدم في الحالتين فهذا يستلزم بناء بيت جديد، وفكرة أن نسكن ناسا مكان ناس تنتفي؛ لأنه ليس هناك مكان تسكن فيه النخبة الجديدة. أيضا هذا يفرض علينا أن نقرر هل سنبني مكان البيت الذي انهار خياما للإيواء بما يحمل ذلك من عشوائية واختلال في القيم، أم أن لدينا النية في بناء بيت أفضل وأكثر اتساعا يستوعب الجميع، وبه منافذ للهواء النقي كي يتنفسه الجميع.

هل كانت ثورة أم انهيار بيت قديم؟

هذا هو سؤال مصر الحقيقي. وعندما نقول ثورة فنحن بالطبع لا نعني كلمة revolution الإنجليزية، والمأخوذة من اللاتينية وفعلها revolve أي يدور، ومن هنا تكون كلمة ريفلوشن تعني دوران النخب الحاكمة، واستبدال نظام بنظام، ومن المفترض أن يكون النظام الجديد أفضل من سابقه. أما الثورة فهي مأخوذة من فعل يثور أو يغلي كما البركان الذي يقذف الحمم في فورة عشوائية تنفجر بسرعة وتخمد بسرعة. وفيها من معاني الانطلاقة غير المنظمة شيء أقرب إلى الهوجة. وأذكر من التاريخ الشفهي لقريتي في الصعيد أنه عندما كان يسأل الفرد منا جده أو جدته عن تاريخ مولده أو مولدها، فكان يرد: ولدت أيام هوجة عرابي. ولم يسم المصريون ما حدث في 1881 بثورة عرابي، إلا في كتب التربية القومية التي درسناها بعد مجيء جمال عبد الناصر للحكم. ربما أيضا عرفت كلمة ثورة أيام سعد زغلول 1919 الذي عرف الثورة الفرنسية وخلافه نتيجة احتكاكه بالغرب، ربما ترجمت وقتها كلمة revolution بما تحمل من هوجة وعشوائية حدثت في 1881 أو 1919. ولم يكن هناك لا تدوير للنخبة ولا تغيير للقيم الحاكمة التي تدل على الدلالات الأوروبية لما ترجم على أنه ثورة. وهنا لا أقول إن الثورات الأوروبية أكثر تحضرا، بل على العكس إن ما حدث في مصر في يناير 2011 كان المساهمة في إزاحة حاكم دونما أعمال بربرية أو انتقامية، لم تحدث فيها مشانق الثورة الفرنسية. فمن حيث التحضر كنا أكثر تحضرا، ولكن من حيث النتائج فلا شيء يذكر في حالتنا. ما أحاول أن أناقشه هنا هو الإصرار في مصر حاليا على تغيير أشخاص بأشخاص، والذي يقع في إطار التدوير للنخب وليس في إطار بناء معمار جديد لبيت قديم تهاوى. وما سمي بالثورات في مصر من عرابي مرورا بسعد زغلول إلى عبد الناصر، لم تكن قطيعة مع الماضي لا معرفيا ولا حتى من حيث تغيير الأشخاص، فحتى في حالة عبد الناصر الذي بذل جهدا كبيرا لإحلال نخب جديدة محل طبقة الباشاوات، لم يحدث التغيير الجذري إذ دخل الباشاوات من الباب الخلفي للثورة وتزاوج الضباط الجدد مع الباشاوات وتصاهروا وانصهروا في بعضهم البعض.

فكرة الاعتراف بأن البيت القديم قد انهار، سواء بفعلنا أو بفعل الزمن، يتطلب بناء معمار جديد، وحتى الآن لا توجد رغبة مصرية في بناء معمار جديد، فقط نحن راضون بنصيبنا وبمساكن الإيواء لأن النخبة الجديدة تريد أن تسكن وخلاص. مش مهم.

المعمار الجديد الذي يجب بناؤه بعد انهيار البيت القديم يجب ألا يكون خياما للإيواء؛ حيث انحطاط قيم الحضارة، بل يجب أن تكون الحرية هي المفهوم الحاكم لهذا الرسم الهندسي الجديد. ولكن وللأسف حتى هذه اللحظة، لم نتحدث عما حدث كمحاولة لإعلاء الحرية بمعناها المطلق ولم يتغير سلوك الإعلام المصري قيد أنملة عن سابقه، فالثورات تحرر البشر ولا تبدل عبودية نظام بعبودية نظام آخر، أيا كان هذا النظام، سواء كان نظام الإخوان المسلمين أو السلفيين، أو ما هو قادم. الثورة تعني الانتصار لقيمة الحرية، فلا يستقيم للعقل أن ننشد الحرية ونسير سير العبيد. منذ 25 يناير ومرورا بثورة 30 يونيو وحتى لحظة كتابة هذا المقال، بكل أسف، لم أقابل المصري الحر بالمعنى الحق للكلمة، فالحرية إحساس بأنه ليس هناك من يراقبك، من حيث سلوكك الديني أو الاجتماعي، إلا ضميرك أنت وما ترتضيه لنفسك.

رأيت مصريين يراقب بعضهم بعضا، ورأيت نظاما ديكتاتوريا قد تغلغل في النفس المصرية بكل أطيافها.

رغم ثورتي يناير ويونيو، فإن سمات نظام مبارك ما زالت قائمة. نظام مبارك لم يكن ديكتاتوريا صارما في نهايته، وهذا كلام يزعج من يأخذون الكلام من شواشيه ممن يتصيدون القول، لكن الحقيقة هي أنه وقبل لحظة انهيار البيت على من فيه، بل بعد خمس وعشرين سنة من حكم مبارك، تشرب الشعب الديكتاتورية كنظام حكم، امتصها كما تمتص الأسفنجة الماء، ولذلك وفي الخمس سنوات الأخيرة كان نظام مصر الديكتاتوري يحكم من تحت وليس من فوق، كان الصحافي جاسوسا، وكان المعلم في المدرسة مخبرا، وكان رئيس الجامعة مخبرا آخر، وكان الأصولي طويل اللحية جاسوسا أيضا، شيء أشبه بنظام البنبتكون الذي تحدث عنه ميشال فوكو في «العقوبة والسجن»، كان كل المصريين سجناء يقضون عقوبة في بيت كبير أو سجن كبير آيل للسقوط، ولما سقط خرجوا للشوارع لإنقاذ أنفسهم، وليس ثورة على التوريث، فالتوريث موجود في مصر، وإن كان يظن المصريون أنهم قضوا على جمال مبارك الوريث، فهناك نظام توريث كامل في كل المجتمع المصري، ابن الوزير وزير، وابن السفير في الخارجية سفير، وابن القاضي قاض، وابن ضابط الشرطة ضابط شرطة.. إلخ إلخ. لا شيء تغير، لم يتغير لا الإعلام ولا القضاء ولا الشرطة، ولا الدبلوماسية، فقط تتغير الوجوه، وهذا ما يريده من يظنون أنهم أسقطوا النظام، أما أنا فلا أرى أننا أسقطنا النظام. البيت انهار على من فيه ونحتاج إلى بناء بيت جديد. لمن يريدون تسكين شباب الثورة محل رجال مبارك أقول ليس هناك بيت صالح للسكنى الآدمية. الخيار لكم؛ إما بناء بيت جديد مشرع النوافذ يدخل هواؤها نقيا، وإما أن تعيشوا فوق الأنقاض، فقط تغيرون فتوة الحارة القديم بالفتوات الجدد.

التعليقات