كتاب 11

08:48 صباحًا EET

الفيضانات بين الساسة والأمراء

كان من المقرر توجه مراسلي وستمنستر (الصحافيين البرلمانيين) خلال اليومين الماضيين (الثلاثاء، والأربعاء) إلى إسرائيل وأراضي السلطة الفلسطينية والأردن، بمرافقة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، في فرصة لتسخين الدور البريطاني في مساعدة الفلسطينيين والإسرائيليين في عملية السلام، مع غياب دور إيجابي واضح لإدارة الرئيس أوباما؛ والاستمرار في دعم خطط الأردن لمساعدة اللاجئين السوريين؛ فلندن تقدم مليار دولار مساعدات إنسانية للسوريين (ضعفي ما تدفع كل بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى مجتمعة).

بدلا من القبعة الشمسية والبذلة الكتان في الأراضي المقدسة، ارتدينا السترات الواقية من الأمطار، والـ«بوت ولينغتون» (الحذاء «الكاوتش» برقبة) للخوض في المياه التي سحبنا المستر كاميرون إليها في مقاطعات جنوب غربي إنجلترا ووادي نهر التيمز بعد إلغائه رحلة كانت سترفع من رصيده على المسرح الدولي.

حالة لم تشهدها البلاد منذ عام 1766، والأمطار مستمرة منذ ثلاثة أشهر بلا انقطاع تقريبا، وعواصف تحملها رياح تدفع سحبا مثقلة بالمياه من المحيط الأطلسي، وتشبعت الأرض بالرطوبة وامتلأت الفراغات الجيولوجية حتى ارتفع منسوب المياه الجوفية، فمياه المطر تتدفق من أعلى، لترتطم بمياه تتفجر من بالوعات التصريف من أسفل.

بدلا من تلقيه ترحيب ساسة الشرق الأوسط واجه المستر كاميرون غضب المزارعين وسكان أتلفت الفيضانات بيوتهم.

استغل زعماء الأحزاب السياسية العطلة الشتوية للبرلمان (13 – 24 فبراير/ شباط)، كالديمقراطيين الأحرار، شركاء المحافظين في حكومة الائتلاف؛ أو إدوارد ميليباند، زعيم المعارضة العمالية، واستثمروا في شراء «بوت ولينغتون» ليخوضوا في مياه الفيضانات، بينما كلف مجلس وزراء الطوارئ المصغر (ويضم رئيس أركان الجيش) القوات المسلحة ببناء سدود لتحويل مياه الفيضانات إلى الحقول والمراعي لإنقاذ البيوت.

قد يكون المستر كاميرون صادقا في نواياه في التركيز على جهود تقليل الخسائر ودعم ضحايا الطقس المتقلب؛ وقد تكون دوافعه رفع شعبيته بهدف جذب الصوت الانتخابي؛ أو قد تكون مزيجا من الاثنين.

ولأنه لا يمكن الحكم بشكل قاطع فليس من الحكمة تخمين دوافع الرجل أو غيره من زعماء الأحزاب. الاستنتاج المنطقي أن النظام الديمقراطي يجعل كسب الناخب أهم دوافع المشتغل بالسياسة. الصحافة الحرة (بسبب أنها تجارية في السوق الحرة المفتوحة وليست مدعومة من حكومة أو حزب) التي تتابع كل خطواته وتفحص تحركاته لتضعه أمام محاسبة الرأي العام كل صباح، تلعب دورا أساسيا في كيفية تعامل الحكومة والمؤسسة السياسة مع أزمة سببها الطقس. ولذا تشكل مجلس طوارئ الطقس وكأن الحكومة تخوض حربا مصيرية.

الناخب البريطاني لا يصوت وفق شعارات عاطفية، وإنما بمقارنة ما تقدمه الأحزاب أو الحكومة أو الزعامات من برامج اقتصادية، وما يراقبه من نماذج تعاملها مع أزمات كالفيضانات. طبعا هناك من يعمل بلا دوافع سياسية لاحتواء كارثة الفيضانات كعمال الإنقاذ ورجال المطافئ والجيش.

حفيدا الملكة، ابنا ولي العهد، الأميران ويليام وشقيقه هاري (اسم التدليل لهنري)، نزلا إلى مناطق الفيضان لينخرطا مع جنود وحدات الجيش، لحمل زكائب الرمال وبناء سدود حماية المنازل من الفيضان.

لم يكن للأميرين أي غرض دعائي، ورفضا إعطاء تصريحات صحافية أو حتى الابتسام للمصورين؛ وأجابا باقتضاب «آسفين يا أساتذة، نحن هنا في مهمة مع الجيش، وليس مهمة ملكية تستدعي تصريحات صحافية». وربما كانا الوحيدين اللذين يؤديان عملا شاقا طوال اليوم بلا أجر (رجال المطافئ والإنقاذ وجنود الجيش يتقاضون مرتبات) وبلا دوافع سياسية. فالفصل بين الحكومة (المتغيرة بالانتخاب) والدولة في النظام الملكي الدستوري يحدد ملامح نضج وعراقة الديمقراطية.

الأمير ويليام هو ولي العهد الثاني أو رقم اثنين في تسلسل تولي العرش ليصبح رأس الدولة (والده الأمير تشارلز هو الأول بعد عمر طويل للملكة)، وشقيقه الأمير هنري (هاري) هو رقم أربعة (بعد الأمير جورج ابن ويليام، وهو رقم ثلاثة).

ورأس الدولة في النظام الملكي الدستوري لا حاجة له «لحركات فارغة» دعائية كالساسة ليكسب شعبية الناخب، أو لرشوته بإجراءات (تضر بالاقتصاد على المدى الطويل) كحال الساسة. وشعبية الملكة إليزابيث الثانية مثلا تفوق شعبية جميع الساسة والزعماء مجتمعين في بريطانيا وبين شعوب الكومنولث حسب استطلاعات الرأي، بل وتفوق الشعبية المتفجرة المؤقتة لملكات الجمال وبطلات الأولمبياد الحاصلات على الميداليات الذهبية.

وشعبية الأميرين ويليام وهاري بدورها تفوق شعبية جميع الساسة، وأبطال الرياضة ونجوم الغناء، ولذا فمساهمتهما بالجهود العضلية عندما وقفا يحملان زكائب الرمال ويتلقيان الأوامر من الضابط المسؤول (برتبة ملازم أول) لمحاصرة مياه الفيضان كانت نابعة من حب الوطن والمسؤولية، ومشاركتهما كضابطين في القوات المسلحة (الأمير ويليام طيار عامل في سلاح الجو الملكي، وشقيقه ملازم ثان في سلاح فرسان «الزرقاء» للقصر الملكي الذي حارب في أفغانستان) بلا دوافع سياسية.

وعندما اكتشف المصورون والصحافيون وجود الأميرين وتالدفقوا كجيش من الجراد (وأسراب من الأسماك) وتجاهلهما الأميران، أرسل المكتب الصحافي للقصر الملكي بتوجيهات إدارية (ليست تصريحات للنشر) للصحافة، مقروءة ومرئية، بان الأميرين ليسا في مهمة رسمية أو عمل خيري وإنما في مهمة تطوعية للجيش ليس فيها ما يستحق النشر. أما ولي العهد الأمير تشارلز، وهو أكثر وجهاء المجتمع اهتماما بالريف، فلم يمر يوم إلا وكان يتفقد المزارع التي أغرقتها الفيضانات، وتبرع بالمعدات وطعام الحيوانات للمزارعين من مزرعته الخاصة في مقاطعة كورنوول، كما طلب، بأدب ملكي، من المصورين والصحافيين الانصراف.

وعلى العكس، فإن المستشارين الصحافيين للحكومة والوزارات المعنية، ولزعيم حزب العمال المعارض، وبقية الأحزاب الأخرى، يتصلون بنا عدة مرات يوميا ويدعوننا لمصاحبة الزعماء السياسيين في تفقدهم لمناطق الفيضان والحقول الغارقة التي تلفت محاصيلها وخربت بيت المزارعين، ومناطق مقاطعات ديفون كرونوول التي تشكل السياحة دخلها الأكبر، لكن الفيضانات وموج المد وعواصف الأطلسي جرفت خط السكة الحديد الذي يربطها ببقية إنجلترا، مما عرقل ثلاثة رباع حركة السفر؛ أما فنادقها والكازينوهات فمزقت أمواج البحر العاصفة واجهاتها وانتزعت نوافذها.

المزارعون وأصحاب الفنادق واستثمارات السياحة يصرخون «ألا يكفينا خراب بيتنا من غضب الطبيعة والعواصف، حتى نتعرض لغزوة الساسة وجيش الصحافيين والكاميرات المصاحبة؟.. ارحمونا واتركونا في حالنا لدينا ما يكفينا». والساسة لن يرحموهم، فالمزارعون بضعة آلاف فقط من الأصوات الانتخابية، بينما يريد الساسة لملايين الناخبين مشاهدتهم يخوضون في مياه الفيضان على شاشات التلفزيون في نشرات المساء.

التعليقات