ثقافة
قرأت لك.. كتاب “تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”
أهم ما يتميز به الكتاب، أن القارئ يتعرف فيه على الكثير من العادات والتقاليد والأفكار لجماعات الشعوب التي انتقل إليها “ابن بطوطة”. كما يتعرف إلى معلومات تاريخية أوردها الرحالة، بالنظر إلى الشعوب، من غير التوقف عند تاريخ السلاطين والملوك فقط.
سبب الرحلة وبدايتها
عندما بلغ ابن بطوطة، الثانية والعشرين من عمره، قرر أداء فريضة الحج، وبالفعل اعتلى المركب، إلا أنه تعرض لحادثة نجا منها بأعجوبة، فهبط عند سواحل الجزائر. وفوراً كانت بداية الأحداث المثيرة، حيث صادق مع أحدهم، من الذين في المركب معه، وقبل أن يتعرض المركب للحادث، مات الصديق ورفيق الرحلة، ذلك بعد أن كان سلمه أمانة وأوصاه بتوصيلها إلى أهله في الجزائر، في حال وفاته. وهو ما حدث! انتهى من مهمته. ثم اعتلى مركب آخر.. فلما بلغ الإسكندرية، انشغل بهذه المدينة الكبيرة، وقضى عدة أيام في زيارة آثارها الرومانية، التي وصفها بدقة. وتابع بعدها الرحلة في طريقه إلى الميناء المطل على شواطئ البحر الأحمر، قبالة أرض الحجاز (الغردقة حالياً). وكانت فرصته ليزور صعيد مصر.
ويقول عن مدينة (منفلوط) في مصر: “في هذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر، ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيراً من دخول معصرة منها، فيأتي الفقير بالخبزة الحارة فيطرحها في القدر التي تطبخ السكر فيها، ثم يخرج، وقد امتلأت سكراً فينصرف بها“.
في تلك الفقرة القصيرة، يكشف ابن بطوطة عن مظاهر الحياة الإنتاجية لتلك المدينة الصغيرة ضمن صعيد مصر، والمعروف عنها إنتاج السكر (ذلك إلى غاية الوقت الحالي).. وكذا الملمح الاجتماعي المتمثل في تكافل الفقراء وإتاحة فرصة تناول بعض من السكر مع الخبز، ولعلها من المأكولات التي لا تزال شائعة، خاصة في أرياف مصر، أثناء “يوم الخبيز“.
كانت المفاجأة الكبرى لابن بطوطة، حين بلغ ميناء السفر إلى الأراضي الحجازية، حيث تشاجر من في المركبين معاً.. وفي نهاية المطاف أقفل الميناء. فما كان منه إلا الرجوع إلى القاهرة، ومنها بدأ رحلته إلى الشمال، حيث بلاد الشام، ليبدأ رحلة حج جديدة تنتهي بعد عام وقد وصل الحجاز، فاتجه جنوباً عن طريق الشام..
وأمضى الشهور مسافراً بين أرجاء الحجاز، واصفاً لها. وكم كان وصفه شيقاً حين سجل احتفال الناس بمقدم شهر رمضان، وكيف أنهم يستخدمون المشاعل للإعلان عن وقت الإفطار ووقت صلاة الفجر.. وكذلك وصفه للمشاعر وأحوال الحجيج.
رحلاته
خرج ابن بطوطة، من مدينة طنجة في بلاد المغرب العربي، الواقعة في أقصى الغرب، وبلغ جزيرة جاوة (إندونيسيا حالياً)، في أقصى الشرق، ماراً بالشمال الإفريقي، ثم الجزيرة العربية وبعض مناطق إفريقيا..
فالجزيرة العربية والشام.. ثم الجانب الشرقي لأوروبا، فبلاد فارس وتركيا.. وبلاد الهند والسند والصين والتبت وأفغانستان شمالاً، حتى استقر مدة عامين في جاوة. كما سافر، في رحلة مستقلة، إلى بلاد الأندلس. ولعله أمضى أطول فترة أقامه له في كل بلدان رحلته، ضمن الصين، التي عمل قاضياً فيها، وفي جاوة التي تزوج من إحدى فتياتها.
طرائف ومشاهدات
يقول ابن بطوطة، عن الموائد الصينية، بما لها من تقاليد خاصة، تختلف كثيراً عن طرائق التقديم في مناطق أخرى مجاورة: “يؤتى بمائدة نحاس (للمرة الأولى يذكر استخدام النحاس، كما يذكر للمرة الأولى استخدام الفحم لتسوية الطعام) عليها طبق نحاس. وتأتي جارية حسنة ملتحفة بالحرير، فتقدم قدور الطعام، ومعها مغرفة نحاس كبيرة، فتغرف بها الأرز مغرفة واحدة، وتصب فوقها ملعقة سمن، فيأكل الإنسان لقمة ..
فإذا تمت الغرفة غرفت الجارية غرفة أخرى للون آخر، من الدجاج المطبوخ، ثم من السمك.. وإذا انتهوا أتوا بالخضر مطبوخة بالسمن، ثم أخيراً يشربون اللبن الرائب، وبذلك يختمون طعامهم، ثم يشربون الماء الساخن، لأن الماء البارد ضار“.. وما كتبه ابن بطوطة عن جزر أقصى شرق الأرض (جاوة) أو إندونيسيا، هو من أكثره إثارة ودهشة، خصوصاً ما يتعلق بالمرأة، سواء أكانت جارية أو زوجة أو حتى من العاملات (الخادمات)، اللاتي يعملن في تصنيع (القنبر) الذي يجهز من أوراق الجوز وتصنع منه حبال المراكب. وهؤلاء النسوة يعملن بما يأكلن وحسب.
وعن تلك الجزر أعطى صورة خاصة للمرأة هناك: “والتزوج بهذه الجزائر سهل، لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء. وأكثر الناس لا يسمي صداقاً، إنما تقع الشهادة، ويعطي صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء، فإذا أرادوا السفر طلقوهن، وذلك نوع من نكاح المتعة. وهن لا يخرجن عن بلادهن أبداً. ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منهن. ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها لسواها، بل هي تأتيه بالطعام، وترفعه بين يديه، وتغسل يده، وتأتيه بالماء للوضوء.. ومن عوائدهن أن لا تأكل المرأة مع زوجها، ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة. ولقد تزوجت بها نسوة، فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي، ولا استطعت أن أراها تأكل، ولا نفعتني حيلة في ذلك“.
كما تناول ابن بطوطة جملة العادات (الطقوس) المصاحبة لتناول الطعام، وما قبله وبعده، باعتبار تناول الطعام، تعبيراً عن قيم اجتماعية، مثل: كرم الضيافة، التي تتبدى في الصراع من أجل استضافة الرحالة.. إلى حد أنه يحدث الخلاف ــ أحياناً ــ بين المضيفين، ولا حيلة إلا بالمقارعة) أو عمل قرعة مثل إلقاء عملة، وأحد الطرفين يختار إما الصورة وإما الوجه الآخر ).
المرأة
يُعد الكتاب موسوعة في العادات والتقاليد، بشأن مكانة المرأة ودورها وأحوالها في بلاد العالم أجمع. فهي شبه عارية في بلاد إفريقية، وتقوم على خدمة الموائد الفاخرة في قصور الهند، وهي التي تحتفي بالضيف من دون زوجها الرجل.. وتقوم على الاحتفاء بالضيف بنفسها.. وكذا التي تودعه، في بلاد الروم.
ولما وصل ابن بطوطة (بلاد الروم)، مدحها، ووصفها قائلاً: “بلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا، فأهله أجمل الناس صوراً وأنظفهم ملابس وأطيبهم (مطاعم).
وكنا متى نزلنا داراً، يتفقد أحوالنا الجيران، من الرجال والنساء، وهن لا يحتجبن، ومن عاداتهم أن يخبزوا في يوم واحد في الجمعة، فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبيزه، ومعه الادام الطيب، ويقولون لنا: إن النساء بعثن هذا إليكم، وهن يطلبن منكم الدعاء، وجميع أهل هذه البلاد على مذهب الحنفية ومقيمين على السنة لا فيهم قدري ولا معتزلي ولا مبتدع
في المأكل والمشرب
قال ابن بطوطة، أثناء وجوده في إحدى مناطق تركيا: “هؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطعام الغليظ، وإنما يصنعون طعاماً من شيء يشبه (الآتالي) أو العنب.. يجعلون على النار الماء، فإذا غلى، صبوا عليه شيئاً من (الآتالي) أو العنب، وإن كان عندهم لحم، قطعوه قطعاً صغيرة وطبخوه، ثم يجعل لكل رجل نصيبه في صحيفة، ويصبون عليه اللبن الرائب ويشربونه، ويشربون لبن الخل.. وهم أهل قوة وشدة وحسن مزاج).
من العجيب المدهش
لا تخلو الرحلة من العجيب والغريب الذي أدهش ابن بطوطة، ولعله يدهشنا حتى الوقت الحالي. وقال، من ضمن ما قال، إن الناس في (مانيلا) يأكلون كل ذي أربع، وكل الزواحف وأغلب الحشرات. ولعل تلك المعلومة يعرفها كل من زار بعض بلدان جنوب شرق آسيا حتى اليوم!
طرائق وأدوات
يلفت ابن بطوطة، إلى أن بلاد التبت تأكل غزلان المسك، بينما بعض الهنود في زمنه (وهم الهندوس)، لا يأكلون لحوم البقر.. ولاحظ ابن بطوطة، أيضاً، أن الأكل يقدم أحياناً مصحوباً بالبروجي (وهى مهمة الرجل المخصص في اللحوم وتوزيعها على الضيوف).
وأحياناً تقوم بتلك المهمة، الجواري والغلمان. بينما في أحيان أخرى، يقوم بها الضيف بنفسه. أما أدوات تقديم الطعام، فهي: القدور للإعداد ثم الصحاف من أوراق شجر الموز، حتى الأواني الذهبية والفضية، والملاعق المعدنية والخشبية
أطعمة ومناسبات
لم يتجاهل ابن بطوطة، في وصفه وسردياته، رصد عادات الشعوب وطقوسهم مع موتاهم! وكثيراً ما بين كيف ارتبط تناول الأكل بالمناسبات، ففي حالة الوفاة في تركيا، لا ترفع الموائد لمدة أربعين يوماً كاملة. ويقول عن الحال في مصر:” إن في مصر القرافة (مكان دفن الموتى) عظيمة الشأن.. ويخرجون كل ليلة جمعة إلى المبيت بأولادهم ونسائهم، ويطوفون على الأسواق بصنوف المآكل“.
المؤلف : ابن بطوطة