كتاب 11
إردوغان: عين في الجنة.. وعين في النار!
دار رجب طيب إردوغان، رئيس وزراء تركيا، دورة كاملة، وعاد هذه الأيام يطرق أبواب أوروبا من جديد، طالبا الإذن بالدخول عضوا في الاتحاد الأوروبي، بعد أن كان، قبل ثلاثة أعوام من الآن، قد راهن على مشروع سياسي بديل هو حكم الإسلاميين تحت رايته، في الشرق الأوسط، فإذا بالمشروع البديل ينهار في لحظة بين يديه، وإذا بثورة 30 يونيو (حزيران) في القاهرة، تأتيه من حيث لم يكن يحتسب، لتقول له، إن عليه أن يعود إلى رهانه القديم، في اتجاه أوروبا عسى أن يحققه!
ففي الرابع من فبراير (شباط) الحالي، كان إردوغان في برلين، وكان قد راح يقدم أوراق اعتماد بلاده مرة أخرى، لعل المستشارة أنجيلا ميركل تشفع له وتسمح، وتحقق للأتراك حلما طال انتظاره، منذ عام 1999، إلى اليوم، من دون جدوى.. فمنذ ذلك التاريخ كانت تركيا قد دخلت في عملية تفاوضية طويلة، من أجل قبولها عضوا في الاتحاد، في مقره في بلجيكا، لولا أن دول الاتحاد كانت في مرة تتحفظ، ثم تنصح أنقرة بأن تبحث عن موضوع آخر تتكلم فيه، ولكن الساسة الأتراك عموما، وإردوغان خصوصا، لم يكونوا ييأسون!
ورغم أن الاتحاد يضم 27 دولة، فإن دولتين اثنتين هما فرنسا وألمانيا، كانتا ولا تزالان تتزعمان التحفظ، بل الرفض المطلق لدخول تركيا في الاتحاد الأوروبي، ولو أن أحدا تأمل معنى تصريحات ميركل في مؤتمرها الصحافي مع إردوغان خلال زيارته هذه الأخيرة لبلادها، فسوف يرى أن موقف ألمانيا لا يزال كما كان قديما، وأنه لم يتغير.. وإلا.. فما معنى أن تقول المستشارة الألمانية، إن مفاوضات أوروبا مع رئيس الوزراء التركي، بهذا الشأن، مفتوحة النتائج، وأنها تنصح بأن يتركز الكلام معه، ومع بلده، حول السياسة الإقليمية وحدها!
من جانبه، راح إردوغان، خلال مؤتمرهما الصحافي، يغازل الألمان تارة، والأوروبيين تارة أخرى، ويقول كلاما من قبيل إن وضع بلاده الاقتصادي قد تحسن كثيرا، على مستويات عدة، ليس أولها ارتفاع متوسط دخل الفرد، ولا آخرها تراجع معدلات البطالة، وتضاعف التصدير والدخل القومي، وإذا كان كلام من هذا النوع، يهم الأوروبيين في عمومهم، فإنه أضاف كلاما يخص الألمان وحدهم، عندما قال إن في ألمانيا أكبر عدد في العالم ممنْ هم من أصل تركي، في إشارة منه إلى وجود ثلاثة ملايين ألماني، من أصول تركية، في الدولة الألمانية!
غير أن هذا كله، لم يزحزح ميركل عن موقفها، بوصة واحدة، وقد راحت تعتصم وهي تكلمه، بلغة دبلوماسية، يفهم منها اللبيب أن على رئيس حكومة تركيا، أن يتكلم في السياسة الإقليمية بين بلده وأوروبا، فهذا هو فقط كل المتاح الآن!
ولا بد أن أي ملاحظ لحركة الرجل، في هذا الاتجاه، سوف يكتشف أنه منذ أن أهل علينا ما اصطلحوا على تسميته بالربيع العربي، كان قد راهن هو عليه، وكان قد جعل من نفسه، راعيا رسميا له، على أمل أن يؤدي الربيع المزعوم إلى مجيء حكومات إسلامية إلى عواصم جنوب المتوسط، على غرار حكومة «العدالة والتنمية» في أنقرة، فينشأ في الإقليم محور إسلامي معتدل، أو هكذا كان يقال عنه، في مواقع السلطة، ثم على أمل أن يتولى إردوغان ذاته، تسويق هذا المحور أميركيا، وأوروبيا، ويكون هو قائده، ومرشده، وموجهه من بعيد.. والمستفيد الأول، بل الوحيد، منه طبعا!
تكشف الأيام هذا كله، لحظة بعد لحظة ولعلنا نذكر في لحظتنا هذه، كيف كان رئيس الوزراء التركي، بالغ الحماس لبدايات الربيع، في أوائل عام 2011، وكيف كان موقفه من تخلي مبارك عن الحكم في القاهرة، موقفا مثيرا للتساؤل، بل وللشك، أكثر منه موقفا داعما لثورة قامت على نظام حكم الرئيس المصري الأسبق!
وقتها.. كنا نتساءل بصدق: منذ متى كان رئيس وزراء الأتراك، يكره مبارك إلى هذا الحد؟! ومنذ متى كان يساند المصريين في ثورتهم إلى هذه الدرجة؟! بل منذ متى كان شأننا الخاص في العاصمة المصرية، يهمه، ويشغله، ويملأ عليه حياته هكذا؟!
وما إن قامت ثورة 30 يونيو، وما إن أزاح المصريون «الإخوان» من مواقع سلطة لم يستحقوها، ولا كانوا أهلا لها، ولا احترموها، حتى سقط القناع عن إردوغان كاملا، وحتى اتضح لنا، أن حماسته لـ«25 يناير (كانون الثاني)» لم تكن من أجل سواد عيوننا، ولا لأنه كان ضد حكم مبارك ولا لأنه كان يدعم أشواق المصريين إلى الحرية، ولا من أجل شيء من هذا أبدا، وإنما كان يريد أن تكون القاهرة رأس حربة، لمشروع خاص به، وطموح شخصي له، في المنطقة، من خلال وجود تلك «الجماعة» الإرهابية في الحكم، فكان ما كان في 30 يونيو، وفقد إردوغان في هذا اليوم، نصف عقله، أو يزيد، وأصابه منه جنون لم يزل يلازمه، ولا نظن أنه سيشفى منه بسهولة!
مسكين الرجل.. فإحدى عينيه كانت دائما في أوروبا، والأخرى في المنطقة، وفيما قبل «الربيع» بقليل، كانت عيناه الاثنتان، هناك في بروكسل، حيث مقر الاتحاد، وفيما بعد الربيع انتقل بهما، إلى هنا، ثم عاد يستدير نحو الشمال من جديد، وكأنه يشبه العربي القديم الذي ظل يبحث في أصل لفظ «حتى».. حتى مات، وفي نفسه شيء منه!! وسوف يظل إردوغان يطارد هذا الحلم الأوروبي القديم، ليموت، وفي نفسه شيء من «الاتحاد» يشاغله!