كتاب 11
حرب المصطلحات
البداية دائما تكون في سؤال هل أعداء الله هم أعداء الدين؟ ثم سؤال أي دين؟ ثم سؤال أي نوع من أنواع هذا الدين؟
واذا كان أعداء الدين هم أعداء الله هم أعداؤنا فماذا علينا أن نفعل؟
دعونا نتذكر أن الله أنزل الدين وأن البشر هم من صنفوه وقسموه، هذا ما حدث مع موسى ثم مع عيسى بن مريم ثم محمد الخاتم عليهم جميعا الصلاة والسلام، ان الله لم يصنف الأرثوذكوس أو البروتستانت أو الكاثوليك كما أنه سبحانه لم يجعل المسلمين شيعة وسنة وخوارج ولم يصنف مذاهب أربعة أو أكثر أو أقل، ان البشر هم من قال بذلك وفعلوهن هم من فسر وحلل وأضاف وحذف وهم من أوكد كل تلك الكيانات المصنفة تحت اسم الدين.
لا أنكر على أحد فكره ولا أصادر عقيدته بل أحترم الجميع، لكن الجميع عليهم ادراك انهم يتبعون بعضهم ويقدسون آراء من سبقوهم وأن المنبع الالهي الرباني واحد ولا يوجد به تصنيفات عقائدية أو درجات أو فروع مقدسة، ان قدسية الرؤية الشيعة للاسلام تنبع من أئمة الشيعة ورؤية أهل السنة تنبع من أئمتهم، ان هي الا اسماء سميتوموها انتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان.
شهدت أيام البشر حروبا شرسة ومواجهات دموية وأخرى مدمرة ما بين تلك الفئات في مناسبات عديدة وكلها كانت بين مقدس ومقدس مضاد له نفس الدرجة من اليقين، الغريب أنه عندما يشرق اليقين تغيب كل التفاصيل الأخرى، اليقين يشبه نورا ساطعا حاشدا يأكل تفاصيل الأشياء في طريقه ويغير على حقيقة ألوانها وملامحها ثم يعيد انتاجها للأذهان بطريقة مختلفه وتتولى الأذهان عمل ما يلزم من الدوبلاج والمونتاج استنادا الى أمزجتها، فتجد هوى لدى البعض وتجد نفورا لدى غيرهم بل أنه في أحيان كثيره يتحول الهوى والنفور الى هوس لأن اليقين يغيب العقل، فلا حاجة لاستخدام العقل حتى ندرك وجود الشمس الموجودة يقينا أو نشعر بالأرض تحت اقدامنا، وهنا تبدأ نذر الحروب في الاقتراب، حروب بين الشعوب وبين العشائر وبين آحاد الناس وبعضهم …حروب اليقين المدجج بالجهالة تصنع الأعداء.
أزعم أن من يعادي دينا فهو يعادي في الحقيقة بشرا آخرين، من يحارب من أجل دينه فهو يحارب من أجل الدنيا بشكل أو بآخر وربما يحارب من أجل دنيا غيره أملا في حساب مؤجل لدى الله الذي لم يأمر بشيء من ذلك، فالله لم يبعث عيسى بالكاثوليكية ولم يبعث محمدا لأهل السنة والجماعة، ولم يقل فيما بعث من الكتاب المقدس أن لفئة منهم كرامة أو رفعة تمنحهم رايته سبحانه دون الفئات الأخرى.
أعداء الدين ليسو أعداء الله بالضرورة … هذا من حيث الشكل.
أما من حيث المضمون فالدين ليس شخصا أو شعبا لكي يكون له أعداء، الدين عقيدة وفكرة وعبادة في شكل مجرد منزه بلا مصلحة أو غاية من تلك التي تقع في دوائر مصالح البشر وغاياتهم وعليه فلا محل للعداء معه ولا معنى لذلك، العداوة لا تنشأ الا بين طرفين بينهما نزاع على مصلحة لا تصلح لكليهما معا ولكل منهما ارادة ولكل منهما هوى، وهذا كله لا ينطبق على الدين كطرف نزاع يؤدي الى عداوة، العداوة لا تنشأ الا بين البشر وبعضهم، معتقداتهم تؤدي الا تنافر مصالحهم حتى تصل بالتنافر الى قضية وجود فتنشا العداوة، ولذلك أنا لا أرى أن هناك أعداء لأي دين، العداء يوجه للذين يدينون بالدين وليس للدين نفسه ولا لمكون من مكوناته، وعليه فلا أعداء لله من جهة الدين الذي لا أعداء له.
وماذا عن الله جل شأنه… هل له اعداء؟
بقدر علمي ازعم ان الله لا يعادي أحدا من البشر بل أنه قد كرم الجميع بلا استثناء على وجه الاطلاق بل وساوى بين الجميع فلا فضل لأحد على احد الا بالتقوى التي لا يعرفها غيره بل أنه بنص القرآن وبرصد الواقع ايضا منحنا جميعا القدرة الاختيار بين الايمان والكفر وما قد ينرنب على ذلك.
وبقدر علمي ايضا فأنا لم أجد في القرآن ما يشي بأن الله يعادي أحدا على وجه الاطلاق، لكنني وجدت ثلاث مواقف تشي بعداء الناس لله جزئيا وضمنيا وان لم يكن بالشكل الصريح الواضح والمواقف هي الحرب والاغضاب والعداوة الجزئية.
الموقف الأول يقول الله تعالى فيه ” إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا…” والله هنا يحدد رد الفعل في الجزاء القانوني تحت مظلة ادارة حاكمة لها سلطة تطبق العقاب المنصوص عليه في القرآن، وهذا هو موقف الحرب والناس هم الذين يحاربون الله ورسوله وليس العكس وحرب الله هنا ثلث الموقف فهم يحاربون الله والرسول ويسعون بالفساد في الأرض.
الموقف الثاني هو المغاضبة والشرك ويقول الله فيه “لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ…” وحاد الله أي غاضبه أو شاركه حدوده كما تقول معاجم اللغة في شرح معنى كلمة حاد، والله لا يطالب المؤمنين في هذا الموقف الا بعدم التودد الى هؤلاء الذين يغاضبونه اي ان الله لا يرفع مستوى المواجهة الى حتى مجرد العقاب القانوني.
الموقف الثالث وهو الذي تبدو فيه العداوة صريحة نصا يبدو في قول الله “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ….” من الملفت للنظر أن العداوة هنا مناصفة بين عداوة الله وعداوة المؤمنين أي أنهم ليسو أعداء لله فقط بل هم أيضا اعداء المسلمين ولم يطلب الله من المسلمين في هذا سوى الردع، اي القيام بكل ما يلزم للردع الاستيراتيجي وفقط الردع بلا مبادرة لاستخدام السلاح.
أما القتال والذي ذكر في مواضع عديدة في القرآن الكريم فهو موضوع مختلف وليس له علاقة بالعداوة نصا أو بالعداوة كنتيجة لخلاف وجودي حاد لا يمكن التعايش في ظله للطرفين داخل اطار صيغة سلمية توافقية حيث لابد من قمع أحد الطرفين في هزيمة لصالح الطرف الاخر، القتال في القرآن ذكر لتقنينه وتسبيبه والحد منه أكثر مما ذكر للدعوة اليه والحض عليه، ذكر لسحق الجبن في نفوس الناس وليس لاثارة الغوغائية والعنف، وذكر أيضا لدحض التداخل بين ما يستوجبه الدفاع عن النفس
والعقيدة والوطن وما يلزم لاحترام الأشهر الحرم بما لها من وضع مميز، أي لترتيب أولويات المسلمين عندما تجن الحيرة على الحدود ما بين المجاز والواقع وذكر أيضا لتفعيله حين تضل الفئات المؤمنة وتغلبهم دنياهم على دينهم فيتقاتلون.
أزعم أنه لا أعداء للدين لأنه مجرد ولا أعداء لله لأنه قهار قادر ولا قبل لأحد أو شيء على عداوته، فلا قبل للانسان ولا الشيطان ولا غيرهما على عداوة الله ، لكنها مواقف تفرضها أنواع من الاعتداء وأنواع من العصيان يضع الله لها أنواعا من التفاعل تتراوح ما بين العتاب والردع ثم القتال ان استدعى الأمر، لكن القاعدة تخلو تماما من فكرة العداوة والانتصار والهزيمة كأساس للتدافع، وأزعم أن تبسيط الموضوع في عناوين مدمجة مضببة مثل أعداء الدين وأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم هو اخلال بحقائق أكبر وأعقد من مثل هذا التعميم، والله يدافع عن الذين آمنوا والله أعلم.