كتاب 11
هل فقدنا آثارنا؟
سؤال يوجهه لي كل من يقابلني في أي مكان أذهب إليه! والناس محقة في سؤالها وفي قلقها. فمن الممكن تعويض أشياء كثيرة نفقدها إلا تراثنا الأثري.. فهذا لا يمكن تعويضه بأي حال من الأحوال. وفي مصر كارثة تكبر أمام أعيننا يوما بعد يوم وهي الحفائر الخلسة وهوس البحث عن الذهب والزئبق الأحمر والكنوز المخبأة التي جعلت كثيرين من الطامعين في الثراء ينقبون الأرض أسفل منازلهم في الدلتا والصعيد، بل وتعدى الأمر إلى الحفر أسفل المنازل في الخفاء إلى التنقيب في الأراضي الأثرية نفسها وفي وضح النهار وتحت حماية السلاح، وذلك بعد الانفلات الأمني الذي ضرب البلاد، ولا يزال، بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011.
إن ما حدث في مصر الوسطى هو كارثة بكل المقاييس، ولعل زيارة واحدة إلى أبو صير الملق وآثار الفيوم وبني سويف والمنيا، خاصة الشيخ عبادة وبني حسن والعمارنة، كفيلة بإظهار حجم المأساة التي تعانى منها آثار مصر، والتي تنذر بضياع مدينة تل العمارنة التي خرجت منها ديانة التوحيد الآتونية على يد إخناتون وزوجته الجميلة نفرتيتي.
وفي شمال البلاد، حيث أهرام الجيزة ومنطقة سقارة وميت رهينة، فالموقف أشد إيلاما، وليس أدل على ذلك من أن هرم الملك خوفو، المعجزة الوحيدة الباقية على ظهر الأرض، انتهكت حرمته، ووصل ثلاثة نصابين ألمان إلى أماكن يستحيل الوصول إليها إلا عن طريق التواطؤ والفساد وقاموا بأخذ عينات من اسم الملك خوفو المسجل على حجارة حجرات تخفيف الضغط فوق غرفة دفن الملك، بل وعينات من حجارة الهرم انتزعوها بالمطارق التي كانت بصحبتهم!! وفي أبو صير القريبة من أهرام الجيزة اقتحم اللصوص المخزن الأثري وحطموا آثاره وقاموا بأخذ عشرات الأفدنة الأثرية بدعوى بناء مقابر عليها أو تحويلها إلى مزارع خاصة! وفي سقارة جرى تدمير جزء كبير من معبد وادي وطريق صاعد لهرم الملك جدكارع إسيسي والبناء عليه. وسمعنا الأسبوع الماضي خبرا كارثيا بكل المقاييس، وهو ضبط 2500 قطعة أثرية في منزل مزارع بأبو النمرس القريبة من سقارة.. نعم 2500 أثر في منزل مواطن جمعها من الحفائر الخلسة في أراضي الآثار ولا يظن القارئ أنه باستعادة هذه الآثار نكون قد عوضنا فقدها، بل إننا فقدنا وإلى الأبد جزءا مهما لا يتجزأ من الآثار، وهو المحتوى الذي جرى فيه الكشف عن هذه الآثار وأين وجدت، والحالة التي وجدت عليها، وهذه المعلومات هي التي تكتب تاريخ الأثر وليس الأثر نفسه. أما عن جنوب مصر الغني بالتراث الأثري فلم يكن بمنأى عن الكوارث التي تعانيها آثار مصر.. فحتى كتابة هذا المقال لا يزال بعض الناس في أسوان يسيطرون على مقابر مذهلة مكتشفة حديثا بواسطتهم قاموا بعمل تذاكر خاصة بهم لزيارة المقابر للراغبين!! أيحدث هذا في بلد يحكمه قانون؟! إننا لم نعد إلى الوراء 50 سنة كما يقول البعض، ولكن رجعنا أكثر من 100 سنة قبل أن تنشأ في مصر مصلحة لإدارة الآثار.. لا يجوز أن يسأل أحد عن حل لمشكلة الآثار في مصر قبل أن تقوم دولة القانون بدورها، وهو الإزالة الفورية لكل أشكال التعدي، وذلك بقوة القانون، وحبس وتغريم المتعدين، وفرض العقوبة القصوى؛ نظرا لما تمر به مصر من ظروف عصيبة، وبعد أن يجري إثبات أن هناك دولة تحمي آثارها نأتي لمناقشة مجموعة من الحلول والخطط المهمة لإنقاذ تراثنا من الضياع.. نحن لا نعاني من انفلات أمني فقط، وإنما من سوء إدارة للتراث الأثري المصري.. لم يعد لديّ سوى أمل أن يقرأ ويستوعب من بيدهم أمور البلاد، الكارثة التي تهدد آثارنا لكي ننقذ ما يمكن إنقاذه، فالوقت لم يعد في صالحنا.. أنقذوا آثار مصر.