كتاب 11
أيا كان الرئيس!
الكثيرون من دون ملل رددوا شعار الثورة: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية»، ولم يتعب أحد منا نفسه بأن يشرح لنا ما هى الطريقة الأنجع لتحقيق ذلك. وكيف؟ وما هى القضايا التى تتجاوز الشرخ الإيديولوجى بين الإسلاميين وغير المؤدلجين ليتفق عليها الجميع وتلقى القبول الاجتماعى الذى هو المعنى الحقيقى لكلمة الشرعية.
الشرعية هى ان تكون المؤسسات والأشخاص والقضايا محل قبول من السواد الأعظم من الشعب، متى ما زاد عدد من لا يقبلون عن 40% من الشعب، فلا شرعية هناك. وهذا حديث آخر. ولكن ما يهمنى هنا هو الآتي: كى نتحرك إلى الأمام لا يكفى ترديد شعارات الثورة كالببغاوات مهما كان نبل هذه الشعارات وطهارة من يرددونها. لا بد أن نجهد انفسنا قليلا فى الحديث عن كيفية تحقيق ذلك بطريقة مرضية للجميع وتلقى قبولهم وتقترب مما أملوه من الثورة؟ وما هى المؤسسات التى تحظى بالشرعية لتمر هذه المطالب من خلالها من دون أن نشكك لا فى المؤسسات ولا فى القائمين عليها؟
قبل الثورة، كان لدينا دستور وكانت لدينا مؤسسات لتمثيل الشعب مثل البرلمان والشورى إلى المجالس المحلية، وكانت جميعها لا تحظى بالإجماع أو التوافق الوطنى ولا بالشرعية. فكيف نتلافى عطب هذه المؤسسات التى ضربت فى مقتل فيما يخص شرعيتها، كيف نحولها إلى مؤسسات تلقى الرضا والقبول من الغالبية العظمى من السكان؟
لكى يحدث هذا، لابد من دراسة حقيقية لفشل النظام السابق ومؤسساته فى تحقيق مطالب الشعب. وعندما أقول دراسة حقيقية أعنى تقييما لأسباب فشل مؤسسات دولة مبارك فى تلبية مطالب الشعب حتى انهار البيت على رؤوسنا فى ثورة يناير. وأعتقد أنه سبب فشل نظام الإخوان، إضافة إلى مشاكله الإيديولوجية وتطرفه، إلا ان أولى اسباب فشلهم أنهم لم يصلحوا نظام مبارك، بل استمروا على النموذج الفاشل نفسه بما فيه من مجلس شعب وشورى ومجالس محلية مازالت لم تحظ بثقة الشعب أو الرضا والقبول. نظام الإخوان قام بعملية إحلال فقط، فالحزب الوطنى الحاكم تم استبداله بالحرية والعدالة الذى لم يكن يؤمن لا بالحرية ولا بالعدالة. وتم إحلال الشلل المغلقة للحزب الوطنى والعائلات والمصاهرات السياسية بالتركيبة نفسها ولكن بدل جماعة الوطنى تغيرت اللافتة واصبحت لافتة الإخوان. النموذج نفسه بكل أسباب فشله للدرجة التى كان يرى المصريون فيها المعادل الموضوعى فى الأشخاص، فكانت الناس تتحدث عن حسن مالك مثلا على أنه أحمد عز الإخوان.. وبقية الأسماء الموازية معروفة.
إذن لايكفى فى علوم إدارة المجتمعات والدول أن نقول ان فاشية الإخوان وحدها هى سبب فشلهم، فهناك أحزاب أكثر عنفا واكثر فاشية واستمرت فى الحكم. نظام الإخوان فشل بالدرجة الأولى لأنه بنى على مؤسسات النظام الذى سبقه وهى المؤسسات التى انهارت مع أول تحرك شعبي. الشيء نفسه حدث مع الإخوان، بمجرد أن نزل الناس الى الشارع يوم 30 يونيو، سقط النظام. وذلك لأن المؤسسات لم تكن تحظى بالقبول ولا حتى الأشخاص أو العملية السياسية برمتها، هذا إضافة إلى الفجوة التى أحسها الناس ما بين وعود الإخوان المعسولة وبين أدائهم الضعيف فى إدارة التنوع الإجتماعى وتوصيل الخدمات إلى مستحقيها من وظائف إلى أجور إلى خدمات. التطرف وحده والفاشية وحدهما لم يكونا سبب انهيار الإخوان، وإنما الأسباب تكمن فى عدم قدرة المؤسسات على تلبية طلبات الناس وحاجاتهم. فشل الإخوان لأن نموذجهم فى التنمية كان فاشلا، ولأن القيادة السياسية على كل المستويات كانت فاشلة، ولأن المؤسسات التى حاولت استخدامها لتوصيل الطلبات إلى الناس هى مؤسسات نظام سابق كان قد فشل وأمام أعين الجماعة ولكنها لم تتعلم من ذاك الدرس! مؤسسات الدولة »المباركية« وما قبلها ربما كانت قادرة على إدارة دولة المدينة المتمثلة فى إرضاء القاهرة وحدها ونثر بعض الخدمات التى تذر الرماد فى العيون فى الأقاليم التى كانت مجرد اقمار تدور فى فلك شمس القاهرة. ولكن الثورة وسعت المجالين المدنى والسياسى فى مصر فلم تصبح مصر هى القاهرة وحدها فالثورة حدثت فى السويس والإسكندرية، ونظام مبارك سقط فى السويس والإسكندرية فى 2011 قبل أن يسقط فى القاهرة، والإخوان أنفسهم حصدوا الأصوات خارج القاهرة. والحقيقة أن القاهرة لم تمنح أغلبية أصواتها لمحمد مرسى وجماعته، بل كانت منقسمة.
«دوشنا» من تعلموا فى الغرب بفكرة المجتمع المدنى كمحك فى تنمية الديمقراطية ونقل الدولة والمجتمع الى الحداثة السياسية، ولكن كل اساتذة السياسة يعرفون أن المجتمع يتكون من مجتمع مدنى ومجتمع سياسى ومجتمع اقتصادى ومجتمعات غير حزبية إلى آخره. فمثلا الذى اسقط نموذج التنمية من السادات الى مبارك إلى مرسي، هو أن المجتمع الاقتصادى كان فاسدا وبوضوح فى عيون الجميع وأن معظم رجال الأعمال ومن اغتنوا آنذاك لم تكن نجاحاتهم وثرواتهم نتيجة اللعبة الحلوة فى سوق يتنافس فيه الجميع بعدالة. ترى ما هى العبقرية فى البزنس اذا كانت هناك فى البلد رخصتان لشركات تليفون محمول مثلا، والدولة أعطتك إحداها فأصبحت مليارديرا؟ أى شخص يحصل على هذه الرخصة بقواعد نظام مبارك يصبح مليارديرا حتى لو لم تكن لديه خبرة أعمال ولو ليوم واحد. أى عبقرية فى أن الدولة تمنحك أرضا فى سيناء أو التجمعات أو الساحل الشمالي، »فتسقع« الأرض بعد أن تنفق الدولة على المرافق وبعد سنوات ومن دون أن تفعل شيئا تصبح مليارديرا. لو اعطيت هذه الفرصة لأبله لحصل على المردود المادى الضخم نفسه. إذن النجاح لم يكن نتيجة جهد او عمل حقيقى تمت مكافأة صاحبه بل نتيجة غش فى المجتمع الاقتصادى الوطني. حدث هذا فى نظام السادات بدرجة اقل، وحدث بتغول فى عهد مبارك، وبفجور فى عهد مرسي. هذا الفجور هو الذى أدى الى فرحة الناس يوم 11 فبراير عندما خرجت مصر عن بكرة ابيها تحتقل بسقوط نظام مبارك، وحدث هذا ايضا يوم 30 يونيو، خرجت الجموع ذاتها تقريبا معلنة غضبها لتكرار النظام السابق، ولكن »بدقن« هذه المرة كما كان يتندر الناس.
الأمثلة كثيرة، ولكن النقطة الأساسية هى أن اسباب انهيار نظام مبارك وأسباب انهيار نظام الإخوان مازالت قائمة، وهى ليست التطرف والفاشية وحدهما ولكن فشل المؤسسات المنوط بها جلب الأموال وتوزيعها بعدالة.
يجب ألا يعمينا الغضب ضد الأعمال الإرهابية للإخوان، رغم بشاعتها وانحطاطها الانساني، عن فهم واقعنا. فأسباب مشاكل مصر الحقيقية والتى أدت إلى انهيار نظامين فى ثلاث سنوات، مازالت قائمة. وأول أولويات الرئيس القادم هو أن يفهم لماذا فشلت المؤسسات مما أدى إلى انهيار نظامين، بعده نتحدث عن كيفية تطبيق شعار الثورة: »عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية«. من دون وجود مؤسسات تحول هذه الشعارات الى سياسات وخدمات تصل الى الناس، سوف يواجه النظام القادم مصير سابقيه، أيا كان الرئيس!