أفضل المقالات في الصحف العربية
مسألة الفقر في صدارة الاهتمام مجدّداً
حين اختير باراك أوباما رئيساً للولايات المتّحدة، تفاءل الكثيرون في العالم بأنّ هذا السياسيّ ذا الأصول الأفرو أمريكيّة (السوداء) سوف يعبّر عن حساسيّة جديدة حيال مسألة الفقر. والشيء نفسه حصل مع اختيار الفاتيكان بابا جديداً من الأرجنتين، هو البابا فرنسيس، المعروف تقليديّاً بحساسيّته هذه، خصوصاً أنّه أوّل بابا يُختار من بلدان “العالم الثالث”.
وبالفعل، وبشيء من التفاوت بينهما، التزم الرمز السياسيّ الأوّل في العالم، وكذلك الرمز الدينيّ الأوّل، طرح هذه المسألة التي تراجع طرحها كثيراً في العقود الثلاثة الماضية.
صحيح أنّ مواقف سيّد الفاتيكان لا تزال أقرب إلى صرخات إنسانيّة وأخلاقيّة عامّة تعوزها أدوات التنفيذ والتفعيل. أمّا المشاريع الإصلاحيّة لسيّد البيت الأبيض فتقابلها، وغالباً ما تحبطها، معارضة صلبة يمثّلها سياسيّو الحزب الجمهوريّ في الكونغرس. مع ذلك، بات من الملحوظ أنّ المناخ السياسيّ – الثقافيّ العامّ بدأ يستقبل بشيء باد من الارتياح هذه الدعوة إلى تغييرات في توزيع الثروة وقضايا الفاقة والجوع. وأغلب الظنّ أنّ الأزمة الماليّة والاقتصاديّة التي ضربت العالم، بما فيه الدول الغربيّة، منذ 2008، كما عمّقت التفاوت بين الذين يملكون والذين لا يملكون، كان لها يد طولى في إحداث التغيير البطيء والتدريجيّ هذا.
فقد انقشع، بنتيجة الأزمة، فقر لم يكن حجمه في الحسبان، وكذلك انهارت شرائح من طبقات وسطى لم تمتلك الصلابة الكافية لمواجهة الانحدار الماليّ، وفي الوقت نفسه تحمّل انكفاء تقديمات الدولة الاجتماعيّة والخدميّة. وهذا، بدوره، ما شكّل ردّاً على موجة التفاؤل التي سبق أن ضربت بلدان الغرب، وبعض بلدان العالم، مع صعود العولمة وما صحبه من صعود يمينيّ في السياسات الاقتصاديّة عبّرت عنه الريغانيّة والثاتشريّة خصوصاً. وبعدما هيمنت الدعوة إلى كفّ يد الدولة وإطلاق حرّيّات السوق من دون رقيب، شرعت تتكاثر الأصوات الداعية إلى قيام الدولة بواجباتها في الرعاية الاجتماعيّة، فضلاً عن إبقاء الأعين مفتوحة على نشاط الأسواق، لا سيّما المصارف التي انفجرت الأزمة الأخيرة بين أيديها وفي كنفها.
فإذا كانت العولمة تخلق ثراء غير مسبوق على الكرة الأرضيّة، وهذا ما لم يعد يماري فيه سوى فرق هامشيّة من أقصى اليسار وأقصى اليمين، إلاّ أنّ اشتغالها يستدعي تطوير مؤسّسات وتشريعات ملازمة تحدّ من آثارها الضارّة والسلبيّة، فضلاً عن تطوير أشكال للحاكميّة السياسيّة تكون أقدر على مواكبة العولمة وعلى توسيع الإفادة من ثمارها.
وكان من آثار هذا الجوّ الجديد اتّساع رقعة النقد الذي توجّهه منابر ثقافيّة وجامعيّة وإعلاميّة في الغرب لنظريّات التقشّف ولباقي الأفكار التي ازدهرت في العقود الماضية، مطالبةً الفقراء وذوي الدخل المحدود بأن يتحمّلوا وحدهم نتائج أزمة لم يكونوا هم المتسبّبين في حدوثها. وفي هذا المناخ، مثلاً، مُنح الاقتصاديّ الهنديّ أمارتيا سنّ، الذي سبق أن نال جائزة نوبل للاقتصاد، “الميداليّة الوطنيّة للإنسانيّات”، وهي جائزة أمريكيّة رفيعة يقدّمها رئيس الجمهوريّة شخصيّاً. والحال أنّ أوباما اغتنم تلك الفرصة ليشدّد على أنّ الدافع إلى منح سنّ الميداليّة المذكورة هو “نظرته الثاقبة إلى أسباب الفقر والمجاعة واللا عدالة”.
لكنْ إلى ذلك، ومع مرور الزمن التالي على انتهاء الحرب الباردة، تراجع كثيراً حتّى كاد يضمحل المناخ الثأريّ حيال الشيوعيّة، والذي تجاوز العداء لها ليمارس عداءه حيال المسألة الاجتماعيّة برمتّها. وهذا تحوّل صحّيّ يسهّل على البابا فرنسيس مهمّته في أوساط المؤمنين المحافظين، كما يسهّل نسبيّاً على الرئيس أوباما أن يركّز في خطابه الأخير عن “حالة الاتّحاد” على تلك المسألة، وينبّه من تنامي التفاوت الاقتصاديّ وخطورته. فكيف وقد بدأ بعض علماء الاجتماع يحذّرون من انعقاد الفقر على مشكلة الهويّة التي تضرب أيضاً بعض أطراف العالم الرأسماليّ المتقدّم، ما قد يهدّد الوحدات الوطنيّة والتعاقدات الاجتماعيّة في بلدان معروفة بقوّة نسيجها الموحّد.
وعلى العموم، يبدو أنّ موضوعة الفقر تعود اليوم لتحتلّ موقعاً بارزاً في الاستراتيجيّات الثقافيّة والسياسيّة الكبرى. وهذا بذاته خبر مطمئن.