مصر الكبرى
عيون وآذان («الناس أعداء ما جهلوا»)
 
لبنان بلدي بالهوية ومصر بلدي بالهواية، فأنا أعرف مصر قبل ثلاثة أرباع أهلها بحكم الولادة، ثم أعرفها أفضل من ثلاثة أرباع أهلها بحكم المهنة. وأتابع حملة انتخابات الرئاسة المصرية، ويلازمني المَثل «الناس أعداء ما جهلوا» أو مَنْ جهلوا، بالنسبة إلى موضوعي اليوم.
وكأن مصر ليس فيها من مشاكل تكاد تستعصي على الحل، فالعنف الأخير الذي رافق الاعتصام أمام وزارة الدفاع وتبعه غير مبرر إطلاقاً ويجب أن يُعاقَب مَنْ أطلق النار على المتظاهرين ومَنْ حرّض على التظاهر والاعتصام. مصر لا تتحمل هذا النوع المؤلم المؤذي من الهزات.
أعضاء مجلس الشعب مصرون على «قانون العزل» فيُمنع أركان نظام حسني مبارك من ممارسة العمل السياسي عشر سنوات.
ثمة رموز للنظام السابق لا دفاع عنهم، وبعضهم يستحق المحاكمة لا العزل فقط، غير أن آخرين عرفتهم من خيرة الناس قدرة ووطنية، ولا أتكلم إلا عمّن أعرف وعمّا أعرف، فأقول أن بعض السياسيين الجدد، بعضهم لا كلهم، أسوأ من «الرموز» المغضوب عليهم.
اللواء عمر سليمان تعرّض لحملات شرسة ظالمة بعد أن رشّح نفسه للرئاسة، وهو استُبعِد الآن، فأتكلم عنه خارج أي مصلحة له أو لي، وإنما تصحيحاً لبعض تاريخه.
كانت لي مع اللواء عمر جلسات كثيرة في رئاسة الاستخبارات، وأختار من جلسة واحدة فقط لضيق المجال، فقد كانت الحكومة المصرية تهدد بوضع ستائر معدنية على الحدود مع قطاع غزة لمنع تهريب السلاح، وكانت جماعات فلسطينية وإسلامية تهاجم نظام مبارك بتهمة التحالف مع إسرائيل ضد الفلسطينيين. وقال لي اللواء عمر أن مصر يهمها منع دخول الصواريخ لأنها تُطلَق على إسرائيل فلا تفعل شيئاً، وتعطي إسرائيل عذراً للرد بغارات جوية تقتل فلسطينيين في القطاع.
هو أخرج لي ورقة وقرأ لي منها، والخلاصة أن الاستخبارات المصرية كانت تعرف أين يوجد كل نفق، ومن أين يخرج في العريش، وأين ينتهي في قطاع غزة، وأسماء الشركاء في الأنفاق، وسعر نقل البضائع بالساعة، وأقله للمواد الغذائية، ثم الأجهزة والمعدات، وانتهاء بالسلاح.
أرجو أن يعذرني اللواء لكشف معلومات كان يُفترض أن تبقى مطوية، فقد كانت السلطات المصرية تزعم أنها لا تعرف أين الأنفاق. وطلبت من اللواء عمر نسخة من قائمة الأنفاق وأصحابها فابتسم، ووعد بأن يعطيني نسخة في جلسة مقبلة.
أقول أن عمر سليمان وطني مصري وعربي أصيل، وكلامي خالٍ من الغرض لأنه خارج حلبة المنافسة.
في المقابل أخونا عمرو موسى في قلب المعركة، وهو المرشح الأكثر شعبية في استطلاعات الرأي العام، وسيظل كذلك، إذا لم يلتف الإسلاميون حول مرشح واحد.
عمرو موسى يُهاجَم بزعم أنه من رموز النظام السابق، والمرشح الإسلامي عبدالمنعم أبو الفتوح عارض ترشيحه على هذا الأساس، ولكن هل هذا صحيح؟
هو في العمل الحكومي منذ الستينات، غير أن نجمه السياسي صعد بسرعة في الثمانينات وهو يمثل مصر لدى الأمم المتحدة في نيويورك، فقد كان منظمة من رجل واحد ضد إسرائيل وكل ما تمثل. وكنت معه سنة بعد سنة مشاركاً في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو هاجم بناء المستوطنات، وطالب بانضمام إسرائيل إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ما أكسبه عداء أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة فكان من أهداف حملاتهم الشرسة، إلا أن هذا أكسبه شعبية كبرى في مصر والبلدان العربية، وعيّنه الرئيس مبارك وزيراً للخارجية حيث بقي طوال عقد التسعينات.
في وزارة الخارجية واصل عمرو موسى السياسة نفسها، بل ربما زاد عليها من جرعات التصدي لإسرائيل، وقد قرأتُ غير مرة في الصحف الإسرائيلية التي أتلقى ترجمتها إلى الإنكليزية كل صباح حملات شخصية على الوزير المصري، وكانت التهمة الرائجة أنه «ناصري سرّي» (من عبارة بالإنكليزية عن الشاذين جنسياً أو المثليين، فالواحد من هؤلاء يوصف بأنه «مثليّ داخل الخزانة»، ما يعني أنه مثليّ بالسر، والعبارة انتقلت لوصف كل مَنْ يحاول إخفاء حقيقته).
ليس سراً أن كثيرين من رموز النظام الحقيقيين ضاقوا بشعبية عمرو موسى، وبعضهم حاول إقناع مبارك بأن وزير خارجيته منافسٌ له على الزعامة، وجاءت أغنية شعبان عبدالرحيم الذي أعلن أنه يحب عمرو موسى ويكره إسرائيل، لتعزز حجة الرموز، ونُقِلَ الوزير إلى جامعة الدول العربية أميناً عاماً.
أخيراً، في العالم بطالة. في مصر قبل الثورة بطالة مقنّعة. في مصر بعد الثورة «مليونية». وأكمل غداً.