مصر الكبرى
مصر «الإسلامية» و «المسلمة» تصارع أمواجاً لا دين لها
فاطمة ودلال جارتان تعيشان في شقتين متجاورتين منذ ما يزيد على عقدين. كلتاهما زوجة وأم وموظفة. تعيشان حياة تكاد تكون متطابقة من حيث الآمال والأحلام والأوجاع.
اتهاماتهما اليومية للبواب بالعمالة والدناءة بتعطيله مصعد العمارة لصالح من يدفع «بقشيشاً» أعلى واحدة، ووقفتهما الصباحية انتظاراً لدخول معجنة «الميكروباص» المتوجه صوب وسط المدينة واحدة، وخشونة فقرات الرقبة وتيبس أوتار الركبة جراء رفع الأثقال اليومي من خضراوات وفواكه لإطعام الأفواه الجائعة واحدة، وكذلك إحباطاتهما الزوجية تجاه زوج يعشق المحشي ويقدس «الكوارع» ويندب حظه أن غيره سبقوه للارتباط بهيفاء ونانسي ودوللي، بينما لم يجد أمامه سوى صانعة المحشي هذه. ورغم هذا التطابق المزري، وجدتا أن المجتمع بات يصنف كلاً منهما في خانة تختلف عن الأخرى.
ففاطمة باتت مواطنة «إسلامية» في حين وجدت دلال نفسها مصنفة «ليبرالية» تارة و «علمانية» تارة أخرى و «ربنا يهديها» تارة ثالثة. فالأولى امتطت موجة النقاب التي هبت على المكتب المتهالك الذي تقتسمه وست موظفات غيرها في المصلحة الحكومية التي تعمل فيها، بعدما لاحظت أن زميلاتها اللاتي ارتدين النقاب الواحدة تلو الأخرى في الأشهر القليلة الماضية بتن يتكتلن ضدها. فإذا اشترت إحداهن خزين السنة من الـ «بامية» لتقميعها في المكتب اشتركن جميعاً في المهمة من دونها، وإن أقمن مأدبة فول وفلافل للإفطار صباحاً، التهمن الوليمة من دون دعوتها، وإن انخرطن في جلسة نميمة عاتية بغرض بحث وتحليل وتفنيد سيرة الزميلات في المكتب المجاور لا لشيء إلا ابتغاء وجه الله والدعوة لهن بالهداية، أقصينها.
ولما عرفت أن سبب ما تتعرض له هو إيمانها الناقص مقارنة بهن، فهي لا ترتدي إلا الخمار بينما هن الأقرب إلى الله بالنقاب، ارتدته في اليوم التالي. وفي العطلة الصيفية، سارعت إلى نقل الأبناء من مدرسة اللغات الخاصة القريبة من البيت إلى مدرسة إسلامية أميركية دولية ملتزمة على الطرف الآخر من المدينة. وباتت لا تركب المصعد إلا بعد أن تردد «دعاء الركوب»، فإن تعطل بها مع انقطاع الكهرباء، رددت دعاء المكروب، وإن عاد التيار جاهرت بدعاء ذهاب الكرب وإطالة الفرح، وإن وصلت غايتها حيث باب شقتها رددت ثلاث مرات دعاء الوصول إلى الغايات. وإمعاناً في نشر توجهها الجديد غمرت جدارن العمارة وأبواب المصعد وجوانب الدرج بملصقات تدعو الضال إلى الهداية، وتطالب المهتدي بمزيد من الإيمان، وتصب اللعنات على الظالم والمنافق والكافر وتارك الصلاة وعدو الدين.
لم تمر مسألة العداء للدين مرور الكرام، إذ شعرت الجارة بأن إسقاطاً ما تحمله ملصقات فاطمة التي شوهت العمارة، فالجارة دلال لا ترتدي النقاب أو الخمار بل تغطي شعرها وترتدي ملابس عصرية، وأبناؤها مستمرون في مدرستهم الخاصة منزوعة صرعة «الإسلامية الأميركية». كما أنها لا تشعر بالإقصاء في العمل، ليس لندرة النقاب، بل لأن «تقميع البامية» في ساعات العمل الرسمية ممنوع، ومجرد التفكير في إقامة ولائم الإفطار على مستندات العملاء جنون، وافتراض جلسات النميمة، حتى وإن كانت بغرض الدعاء بالهداية، غير وارد أصلاً وأمر غير قابل للتحقق.
لكن ما تحقق هو أن المواجهة الدامية بين الجارتين أسفرت عن معايرة الأولى للثانية بأنها «مواطنة إسلامية»، في حين أشهرت الثانية في وجه الأولى كارت الاتهام سابق التعليب بأنها «تتبع منهج القطيع» و «عملت ديليت (حذفاً) على مخها» وأنها «ركبت موجة المتأسلمين».
تراشق الاتهامات بين فاطمة ودلال تارة بالـ «تأسلم» وركوب موجة «الإخوان»، والرد بأن «الدور والباقي على العلمانيين أعداء الدين الراغبين في طمس هوية الوطن الإسلامية»، وهو ما ينتج عنه سرد تاريخي قديم للباص الحكومي الذي كان يشحنها وزميلاتها لإعلان التأييد للحزب الوطني الديموقراطي المنحل ورئيسه المخلوع ورموزه المحبوسين وآخر معاصر لقناة «التت» التي تصدح دقتها «على واحدة ونص» في أرجاء العمارة بعد منتصف الليل.
تصنيف فاطمة باعتبارها «مواطنة إسلامية» وجارتها دلال «العلمانية» هو مشهد من سيناريو وصلات التصنيف والمعايرة والمصارعة الرائجة هذه الأيام بين سياسيين إسلاميين وآخرين مسلمين لكن غير إسلاميين، وبين محلات تبيع الملابس النسائية الإسلامية وأخرى تبيع ملابس نسائية للمسلمات، وبين ودائع بنكية إسلامية تعطي فوائد إسلامية وأخرى غير إسلامية تعطي الفوائد نفسها لكن من دون تصنيف، وبين مثقفين إسلاميين اعترضوا على مقابلة الرئيس لمثقفين غير إسلاميين، ومحافظين إسلاميين يجوبون محافظاتهم بالجلباب في مقابل محافظين يفصلون بين الدين والسياسة ويرتدون القميص والبنطلون، وبين مدارس إسلامية تندد ليلاً ونهاراً بالغرب الكافر لكن تتبع المناهج الأميركية، وأخرى أميركية منزوعة التنديد، وأخيراً بين مصر «إسلامية» وأخرى «مسلمة» وكلاهما في مركب واحدة تركبه فاطمة ودلال تتقاذفهما أمواج لا دين لها.