تحقيقات
بداية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
المولد النبوي الشريف في عهد الفاطميين
لما واجه الفاطميون صعوبات عديدة في بلاد المغرب، وكثر عليهم الثوار والخارجون، أراد خلفاء الدولة الفاطمية البحث لهم عن مكان جديد يكون موطئ قدم لعرش وكرسي دولتهم، وكانت أنسب الأماكن المرشحة لذلك هي ‘مصر’، لما كان لها من مكان متميز وسابقة في الإسلام، وأيضًا لوجود اضطرابات داخلية فيها وفي الدولة العباسية ككل، وبالفعل استطاع جوهر الصقلي قائد جيوش المعز الفاطمي أن يدخل مصر في شعبان سنة 357هـ، واستمر لمدة أربعة سنوات يشيد مدينة ‘القاهرة’ ودخل المعز القاهرة في شعبان سنة 361هـ.
كان المعز الفاطمي شخصية شديدة الذكاء، أدرك أن عليه مهمة صعبة في أرض مصر لاختلاف العقائد، فأهل مصر سُنّة، لا مكان بينهم للشيعة أو الباطنية أو الإسماعيلية، وأدرك المعز أنه سوف يلاقي صعوبات جمة، ففكر في وسيلة يستميل بها قلوب العامة وأهل مصر حتى يروج أمره عليهم، فرأى أن أقرب السبل للوصول لرضا أهل مصر هو عمل شيء يدل على الولاء للنبي “صلى الله عليه وسلم” وآل البيت، لما كان عند أهل مصر من ميل لهم واعتقاد فيهم، فأحدث المعز الفاطمي مناسبه الاحتفال بالمولد النبوي، وجعله مقدمًا على عيدي الفطر والأضحى! وأغدق فيه بالأموال والعطايا على الفقراء، وعلّق الزينات، وأقام الولائم، وسيّر المواكب العظيمة والجند الكثيرة بالأعلام والأبواق، فاستولى بتلك الاحتفالات والشعائر على قلوب العامة وفتنهم، وواكب تلك الاحتفالات وجود حالة من ا لقحط والجوع عند أهل مصر؛ فاستفادوا مما يوزع من هبات وصدقات وطعام وشراب، ووافقوا على هذه الاحتفالات التي دخلت بلاد المسلمين على يد الفاطميين، وكان المعز يحتفل بالمولد أول الأمر في ثامن الشهر، ثم حدث خلاف على تعيين اليوم، فصار يقيمه سنة في الثامن، وسنة في الثاني عشر من ربيع أول.
استمرت هذه الاحتفالات قائمة في مصر في دولة الفاطميين لا تعرف إلا عندهم فقط، حتى تسربت في القرن السادس الهجري لأحد أمراء الدولة الأيوبية، وهو المظفر أبو سعيد بن زين الدين كوكبري صاحب مدينة أربل، وكان له آثار حسنة وأفعال طيبة، ولكنه كان له ميل شديد للصوفية، فاعتنى كوكبري بأمر المولد وبالغ في الاحتفال به، وكان يصنع طعامًا كثيرًا حتى إنه كان يمد سماطًا للطعام فيه خمسة آلاف رأس غنم مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان ينفق على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، ولقد صنف له بعض المشايخ مجلدًا في فضل المولد النبوي، سماه: ‘التنوير في مولد البشير النذير’؛ فأعطاه كوكبري عليه ألف دينار. ومن مدينة أربل انتشر الاحتفال بالمولد النبوي لسائر بلاد المسلمين؛ لأن الناس ـ وخاصة الصوفية ـ كانوا يفدون على مدينة أربل من كل مكان ثم يعودون لبلادهم ليقيموا بها تلك الاحتفالات.
المولد النبوي الشريف في عهد الدولة الأيوبية
كان أول من احتفل بالمولد النبوي بشكل منظم في عهد السلطان صلاح الدين، الملك مظفر الدين كوكبوري، إذ كان يحتفل به احتفالاً كبيرًا في كل سنّة، وكان يصرف فيها الأموال الكثيرة، والخيرات الكبيرة، حتى بلغت ثلاثمئة ألف دينار، وذلك كل سنة. وكان يصل إليه من البلاد القريبة من إربل مثل بغداد، والموصل عدد كبير من الفقهاء والصوفية والوعّاظ، والشعراء، ولا يزالون يتواصلوا من شهر محرم إلى أوائل ربيع الأول. وكان يعمل المولد سنة في 8 ربيع الأول، وسنة في 12 ربيع الأول، لسبب الاختلاف بتحديد يوم مولد النبي محمد “صلى الله عليه وسلم”. فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيءًا كثيرًا وزفّها بالطبول والأناشيد، حتى يأتي بها إلى الميدان، ويشرعون في ذبحها، ويطبخونها. فإذا كانت صبيحة يوم المولد، يجتمع الناس والأعيان والرؤساء، ويُنصب كرسي للوعظ، ويجتمع الجنود ويعرضون في ذلك النهار. بعد ذلك تقام موائد الطعام، وتكون موائد عامة، فيه من الطعام والخبز شيء كثير.
المولد النبوي الشريف في عهد الخلافة العثمانية
كان لسلاطين الخلافة العثمانية عناية بالغة بالاحتفال بجميع الأعياد والمناسبات المعروفة عند المسلمين، ومنها يوم المولد النبوي، إذ كانوا يحتفلون به في أحد الجوامع الكبيرة بحسب اختيار السلطان، فلمّا تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة قصر الاحتفال على الجامع الحميدي. فقد كان الاحتفال بالمولد في عهده متى كانت ليلة 12 ربيع الأول يحضر إلى باب الجامع عظماء الدولة وكبراؤها بأصنافهم، وجميعهم بالملابس الرسمية التشريفية، وعلى صدورهم الأوسمة، ثم يقفون في صفوف انتظارًا للسلطان. فإذا جاء السلطان، خرج من قصره راكبًا جوادًا من خيرة الجياد، بسرج من الذهب الخالص، وحوله موكب فخم، وقد رُفعت فيه الأعلام، ويسير هذا الموكب بين صفين من جنود الجيش العثماني وخلفهما جماهير الناس، ثم يدخلون الجامع ويبدأون بالاحتفال، فيبدؤوا بقراءة القرآن، ثم بقراءة قصة مولد النبي محمد “صلى الله عليه وسلم”، ثم بقراءة كتاب دلائل الخيرات في الصلاة على النبي، ثم ينتظم بعض المشايخ في حلقات الذكر، فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبي. وفي صباح يوم 12 ربيع الأول، يفد كبار الدولة على اختلاف رتبهم لتهنئة السلطان.
المولد النبوي الشريف في المغرب الأقصى
كان لسلاطين المغرب الأقصى بالاحتفال بالمولد النبوي همة عالية، لا سيما في عهد السلطان أحمد المنصور الذي تولى الملك في أواخر القرن العاشر من الهجرة، وقد كان ترتيب الاحتفال بالمولد في عهده إذا دخل شهر ربيع الأول يجمّع المؤذنين من أرض المغرب، ثم يأمر الخياطين بتطريز أبهى أنواع المطرَّزات. فإذا كان فجر يوم المولد النبوي، خرج السلطان فصلى بالناس وقعد على أريكته، ثم يدخل الناس أفواجاً على طبقاتهم، فإذا استقر بهم الجلوس، تقدم الواعظ فسرد جملة من فضائل النبي محمد “صل الله عليه وسلم” ومعجزاته، وذكر مولده. فإذا فرغ، بدأ قوم بإلقاء الأشعار والمدائح، فإذن انتهوا، بُسط للناس موائد الطعام. (ومازال الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قائم حتى يومنا هذا فى كل بلاد المسلمين)