مصر الكبرى

08:16 صباحًا EET

أين ضاعت مصر الوحدوية تاريخيا والموحدة دينيا؟!

عندما كنت أتحدث إلى البعض وأقول أن مصر بلد وحدوي تاريخيا، وتوحيدي دينيا، كان ذلك محل استغراب خاصة في السنوات الأخيرة، ولا يمكن لبلد يقيم أول وحدة في التاريخ الإنساني أن يسيطر عليه انعزاليون وانفصاليون، ولا يمكن لشعب عرف الإله الواحد مبكرا أن يكون طائفيا ومذهبيا وعنصريا، لقد تغير الوضع في اتجاه معاكس للطبيعة الوجدانية والتاريخية للمصريين. وهذا هو لب الفكرة التي يدور حولها موضوع هذه السطور.

نبدأ بالقول أن مصر منذ 25 كانون الثاني/يناير 2010 وهي في حالة ثورة، لكنها بقيت محصورة بين المواطنين وفي نطاق الشارع، ولم تصل بعد إلى أوساط القابضين على زمام الحكم والمال والأمن والثقافة والإعلام، فكل ذلك ما زال في أيدي فلول الحكم السابق ورجال المال والإعمال والغالبية العظمى من جهاز الدولة، وحمل الفكر السائد تشوهات وسمات تناقضت مع طبائع الثورة، وبدا الأمر وكأن هناك اتفاقا لوضع الثورة الوليدة في مواجهة الثورة المضادة التي ما زالت قوية ومتجذرة، وعلى مستوى الشارع ما زال سقف الثورة مرتفعا وهو الذي حافظ على التوازن القائم وحد من صدامات دموية كانت متوقعة.
والغريب أنه مع الثورة تكاد تغيب الثقافة الجامعة، التي بدورها غيبت خطوات وإجراءات المساواة بين المواطنين، فلم يتحقق بينهم العدل المنشود بعيدا عما تم انتزاعه بقوة المليونيات ودماء الشهداء وآلام الضحايا، ما زالت الديمقراطية في مستوى الشعارات اللفظية وأسيرة عمليات إنتخابية وإجرائية أفسدت الحال أكثر مما أصلحت؛ وانحصرت العملية السياسية في دوائر ضيقة لجماعات وأحزاب وائتلافات تتصارع وتتناطح وتطحن الهواء بينها، وتحول عدد منها إلى ‘دكاكين وأكشاك’ لجماعات مذهبية وطائفية تعمق حالة انحطاط عاشتها مصر على مدى أربعة عقود، ورواد هذه الدكاكين والأكشاك سعداء بما هم فيه ما دامت طقوسهم مضمونة وراياتهم مرفوعة وصوتهم الأعلى.ومع كل طلعة شمس تزداد الصراعات، وتتسع مساحات الفرقة، وتنتشر ثقافة التشرذم؛ فلا نرى إلا تكالبا محموما على غنائم سياسية واقتصادية وبرلمانية؛ ومصر أحوج ما تكون إلى الانضباط والمراجعة والمصالحة والبناء والمحاسبة، ومعروف أن الحاكم الجديد يبدأ عصره بنشر روح العمل المشترك، ويعطي الأولوية لإعادة الثقة في الحكم والدولة، ويمنح المواطن الأمل في القدرة على التصدي بكل عزم وقوة لركام الفساد المعشش في كل مكان؛ في المؤسسات والهيئات العامة والخاصة.وبدلا من أن تكون الثورة بابا ذهبيا للتفتح وسعة الآفق وُضعت في ‘غيتو’ منغلق ومظلم؛ يناقض الموروث التاريخي والثقافي الرحب في المجتمع المصري في فترات ودورات نهوضه.فقدت مصر كثير من براءتها ومرونتها وسماحتها ووحدويتها وتوحيدها، وقد تغيرت إلى حد كبير، بشكل أشعر أجيالا مخضرمة بالغربة، والتغيير الذي حدث في الطبيعة والشخصية والثقافة والهوية، ويلمسه المرء في تصرفات عامة وخاصة لأطراف وقوى صاعدة تمسك بمفاتيح ‘الثورة’ والسلطة والقرار، فتوقفت مسيرة الثورة ولم تصل بعد إلى الأهداف التي استشهد من أجلها الشباب.الغالبية من قوى ‘الثورة’ والسلطة تبحث عن مواطن الاختلاف وتعمقها وتهرب من أعباء ومسؤولية الاتفاق والعمل المشترك؛ سعيا وراء سراب اسمه ‘توافق’ لا يتم، وتجده منصوصا عليه في أدبيات وشعارات وأهداف كيانات وجماعات وائتلافات تتوالد كالفطر في الجسد الوطني، الذي لم تتح له فرص الخروج من دائرة النزف والإنهاك، ومستمر في الدوران ‘مثل الثور في الساقية’ كما يشير إلى ذلك مثل شعبي مصري شهير!. واللغة بدورها تحولت إلى مسخ، مَسَخ معه أنساق الحياة وأخل بقيم التماسك والوحدة، وهذه لغة تتعمد تشويه الفكر وخلخلة ثقافة الاندماج والتوحيد والانصهار، وتعبر عن انحطاط بالغ؛ وإن كان من صناعة العهد السابق، لكنه ما زال يجد الرعاية من الحكام الجدد!.ووجدت الديمقراطية من يوظفها في نشر تلك الثقافة المتخلفة، وكما اتخذ مبررا للغزو (العراق نموذجا) فهي حاليا أساس تبرير الفرقة وتحصين القيم الطائفية والعشائرية والانعزالية، والديمقراطية هنا تختلف عن وظيفتها في الغرب، وهي هناك طريق للتخفيف من وحشية المال والاستغلال وسطوة الاحتكار ووطأته، ومن أجل ذلك تحرص على المنافسة السلمية تجنبا لحروب وصراعات دموية طبعت التاريخ الأوربي حتى عقود قريبة، وعززت القوة الفردية والمجتمعية والسياسية للبنيان المجتمعي. أما الديمقراطية في بلادنا فهي لتمكين الغرب من السيطرة؛ بالهيمنة السياسية والاقتصادية، وما لا يأتي بالإذعان يُفرض بالعنف والصراعات الدموية والحروب الأهلية، ومهمتنا ضبط الديمقراطية بضوابط ومعايير وطنية؛ توحد ولا تفرق.. تصون ولا تبدد.. تشد أزر الصديق وترد كيد العدو. ودون ذلك فهي سبيل للضعف الفردي والمجتمعي والسياسي، وأداة لتقويض الشخصية الوطنية، والحد المطلوب لتأهيل مجتمعاتنا ديمقراطيا هو بعدم الفصل بين الديمقراطية بعيدا عن حماية الاستقلال الوطني وتحقيق العدل الاجتماعي. وعلينا أن ننحاز للرأي الذي يقول لا يمكن بناء الديمقراطية وتحصينها دون استكمال الثورة وتحقيق أهدافها!!. أن يزداد المد الانعزالي بعد ثورة 25 يناير فهو شيء غير مفهوم ولا مُبرر. فمصر الدولة الأقدم؛ السباقة في ‘اختراع’ الاستقرار والاندماج الوطني والتوحيد الديني، بدت بعد الثورة في تناقض مع شخصيتها وتصادم مع تاريخها، وحالتها الراهنة تبدو غير عابرة ولا مؤقتة. لذا فإن القوى الواعدة والحية في قلق بالغ عليها؛ مصدره أن ما يحدث فيها على غير طبيعتها، وهناك جيوش جرارة تتولى تأصيله وتجعل منه بنيانا عقائديا للتعصب والاقتتال والفتن، وهذه طامة كبرى، تنذر بمخاطر جمة.وكل ذلك عَرَض من أعراض التغريب والصهينة؛ وعرض امبراطوري توسعي للوجود الغربي المتنوع. وهو يؤكد وجوده بيننا بالتضليل والإذعان والاستنزاف. وكانت طبيعة مصر الوحدوية والتوحيدية نزاعة إلى الاستقرار ومحفزة على الحضارة والتقدم، ومع زيادة التوجه الحضاري اتسعت الأقاليم والأوطان والدول، وتجاوزت أحجام الجماعات البشرية البدائية، وتنامت وتعاظمت الحاجة إلى التنظيمات الإدارية والسياسية لضبط حياة البشر وتقنين التبادل والمنافع بينهم.وإذا كانت الزراعة قد أقامت القرية وأنشأت ووفرت الأمان والاستقرار المطلوب فإن التجارة أسست المدينة وضبطت حركة الأسواق فيها، وبعدما كانت حياة البداوة تقوم على الترحال وراء الرزق، أصبح الرزق يعتمد على الاستقرار والعمل الإنساني والإنتاج، فنشأت المراكز والمحطات التجارية وأخذ الترحال معنى آخر أكثر انضباطا وتنظيما، ارتبط بالأسواق والمدن ينطلق منها ويعود إليها، واختلفت وظائف المدن والقرى؛ فالثانية تنتج والأولى تجمع ما يُنتج وتعيد توزيعه بالمقايضة والبيع والشراء.وأول وحدة جغرافية وسياسية في التاريخ قامت في مصر في 3200 ق م على يد الملك مينا، ونشأت معها ثقافة وحدوية عمقت روح الوحدة والاندماج والتعايش، وكانت أهم لبنة في تكوين الشخصية المصرية تاريخيا، كأقدم شخصية وحدوية في التاريخ الإنساني المدون.ومنذ عهد اخناتون – أحد ملوك الدولة الحديثة – في القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ اتجه المصريون نحو التوحيد الديني، واكتشفوا الإله الواحد الذي لا شريك له، ورمز له اخناتون بقرص الشمس ‘آتون’، الذى يرسل أشعته على الأرض فيحمل لأهلها النور والخير والحياة، وللإله ‘آتون’ الجديد بُنيت المعابد المفتوحة على السماء. وجاءت الرسالات السماوية مؤكدة للوحدانية الإلهية، وقامت ثقافة المجتمع المصري القديم في جانب منها على التوحيد الديني. وما يبدو حديثا من خلاف إسلامي مسيحي، لا يتناقض مع تلك الثقافة، وذلك ذكرناه من سنوات قليلة على هذه الصفحة بأن ذلك كامن في وحدة أصل ومصدر الديانتين السماويين، وهذا ما يعزز الوحدة السياسية وفيها تحصين للوحدة الوطنية.مصر ذلك الكيان الوحدوي سياسيا والتوحيدي دينيا تقيم تعدديتها وتتعامل مع تنوعها على ما يمكن تسميته ‘الانسجام الثقافي’، والمشكلة في الجهود الضارية لضرب ذلك الانسجام وقد أثرت عليه بالفعل بشكل سالب. عن طريق حصار إعلامي وتعليمي وفكري بثقافات وأفكار ومناهج تعليمية معاكسة لتقويض التماسك وإضعاف المناعة، وبدا ذلك فوق طاقة كثيرين على المقاومة. ونستطيع القول بأن التفكيك النفسي والثقافي قطع شوطا كبيرا على طريق التقسيم السياسي والجغرافي والطائفي. وهناك جماعات أهلية ‘حقوقية’ أسقطت مصر بطبيعتها الوحدوية التوحيدية من حسابها، وأضحت مصر أمصارا والشعب شعوبا والثقافة صارت ثقافات!!. وبدلا من أن يكون التعدد والتنوع مصادر للإثراء والخصوبة كما كان الوضع في السابق يتم استغلاله في نشوب الخلافات والنزاعات الداخلية، وفي تأجيج الاقتتال الأهلي، وتهديد مستقبل الوطن والدولة وتماسكهما، ونشر النعرات، وتعقيد العلاقات بين الفئات والجماعات المختلفة، وبث الخوف بينها.وبدت المسألة متجاوزة وجود الطوائف والمذاهب والأقليات، وهي من مكونات المجتمع من الأزل، والمشكلة هي في توظيف هذا الواقع في المصادرة على كل ما استقر في الوجدان الوطني، وكما أن هناك ‘ثورة مضادة’ نشأت في مصر ‘ثقافة مضادة’ مغذية للتعصب المذهبي والطائفي والانعزالي، وتتخذ من التمييز سبيلا لزرع الشقاق والفرقة، وتعمل لحسابها فضائيات ووسائل إعلام وصحافة تؤجج الصراع وتزرع الفتن.والنتيجة أن بقاء الدولة المعبرة عن وحدة المجتمع وتماسكه ليس مضمونا، بعد أن انهارت دول عربية أخرى؛ استغلت فيها الصراعات القبلية والطائفية والمذهبية، وذهب ضحيتها أعداد غفيرة من مواطنيها، ودوام هذا الحال يشير إلى إنتكاسة تعيشها المنطقة، وقد عادت إلى مربع التخلف الشامل (ثقافي وحضاري واقتصادي وعلمي وتقني)، وغاب عنها الحكم الرشيد، بكل ما يترتب على ذلك من انهيارات سياسية ومجتمعية وانتكاسات حضارية وثقافية.المقومات الحضارية والثقافية ازدادت ضعفا، وأضحت أدنى من متطلبات التحديات الراهنة في بلد كانت مضرب الأمثال في الانسجام الوطني والتماسك الاجتماعي، وبغلبة هذه الروح لا يمكن أن نطمح في وحدة وطنية أو عربية أو إقامة أي نوع من أنواع التنسيق والعمل المشترك. ولن يرتفع سقف الطموح دون استعادة الإرادة الوطنية، والانشغال بالهموم العامة، وليتكافأ الحكم مع حالة الثورة لدى المواطن العادي وفي الشارع، وما زال المواطن مستعدا للتضحية، وما زال الشارع قادرا على الخروج والاحتجاج، والمشكلة في غياب مثل هذا الفهم عن وعي أغلب الثوار، ومنهم من أسقط كل هذا من حساباته فابتعد عن الثورة وأهدافها.. ما العمل إذن؟!.

التعليقات