مصر الكبرى
أميرة سليم فنانة مصرية تتغنى بأعمال عالمية
تقف على مسارح فرنسا وتتدفق من صوتها نسمات النيل
< براكسا > محاولة أصيلة لتحويل مسرحية توفيق الحكيم إلى عمل أوبرالي ناجح
كتبت – مروة فهمي : 
لدى مصر موجات من مواهب تتألق على الساحة العالمية وتفرض نفسها في لغة الحوار الإنساني ، فبلادنا حرصت مبكراً على الاندماج بشخصيتها وتراثها وساهمت في انفتاح على أفق العالم . ومصر من طيور الحضارة المحلقة في سماء وفضاء البحر المتوسط والامتدادات العميقة في جذور التاريخ ، حيث كانت تطل ولا تزال على المشهد بطموحات وآمال كبرى .
وعندما أستمع إلى صوت الأوبرالية المصرية أميرة سليم يصدح على مسارح عالمية في باريس وفيينا وغيرهما أشعر بالفخر الشديد ، لأن رموز لأجيال شابة تواصل الرحلة التي بدأها الرواد في الاندماج والانفتاح مع الاحتفاظ بالشخصية المصرية حاضرة ومتألقة .
وعندما شاهدت خلال الآونة الأخيرة لقطات ومقاطع لغناء أميرة سليم يستلهم أوبرا موتسارت < الناي السحري > ويلقي عليها تفسيرات شرقية وعدة أنغام قادمة من نهر النيل ، شعرت بهذا الوهج الجميل لوجود تلك الإضافة بصوت المطربة الأوبرالية التي تعكس مقامات وساحة حنجرتها رياح النيل ، وهي تعانق أنغام موتسارت النمساوي الذي أحدث نهضة في إيقاع الموسيقى ونقل الأوبرا بدفعة قوية من ضفة إلى أخرى .
هذا الطموح المصري من موسيقيين أفذاذ لقراءة نص موتسارت الموسيقي ، فيه هذا العناق الشديد التألق في المزج بين إيقاعات وروح حضارة أخرى مما أتاح لمغنية الأوبرا اعطاء لمحات عبقرية في هذا المناخ . حاز هذا الاجتهاد على النجاح نتيجة اختيار المقاطع والوقفات الموسيقية كذلك العبور إلى عدة نغمات من فقرات الفرقة الموسيقية لأوبرا الناي السحري ، وجعلها تستوعب أوتار مصرية شرقية صحيحة إلى جانب تألق نغمات الناي العميق بشجنه ولوعة ألحانه .
جاء صوت أميرة سليم يكمل أضلاع المثلث الإبداعي ، بل هي التي ترجمت المحاولة كلها وجسدت العمق الجميل في إرتباط لحن موتسارت وإضافة نسيم النيل إليه ، فكانت تردد الكلمات الموسيقية المغناة بأسلوب الأوبرا ، وكأنها تغوص في أعماق التربة المصرية لتخرج أسرارها وعواطفها الكامنة المفجرة .
وما تصدح به المغنية الأوبرالية أهم عناق يشير إلى إضافة فنية مصرية أصيلة ، حافظت على اللحن الأساسي وأضافت إليه نغمات شرقية قادمة من عمق مصر .
إلقاء أميرة يعكس معادلة رائعة وهي الانفتاح الحقيقي على فنون الغرب مع تمسك بالأصالة والشخصية . وهذا عنوان الحضارة التي نريد الولوج إليها ، أي التمسك بالعلم والتطور وفي الوقت نفسه نجد شخصيتنا حاضرة وراسخة . وهذا يرد على تفسيرات ساذجة ترى الانفتاح على العالم يعني طمسنا والقضاء علينا تحت عجلات العولمة .
هؤلاء الذين يرفعون صوتهم بهذا الجهل العبثي ، لا يفهمون شخصية مصر على الإطلاق ، لقد استوعبت حضارات مرّت عليها ، وكانت واثقة من نفسها وشعبها فلم تستطع موجات وافدة إبتلاع النيل ، لأنه الأقوى ، ليس بالعنف والصخب وإنما بالرقة العميقة والأسلوب الرصين .
غناء أميرة سليم لقطعة موتسارت ولدور شديد الخصوبة في أوبرا < الناي السحري > هو العنوان الجميل الذي نلتف حوله جميعاً ، فدراستنا للموسيقى الإنسانية والحضارية لا يلغي حضور تاريخنا ، بل على العكس يؤكد على أصالة تعتمد على ثقة الحوار والتناغم مع الآخر .
وعندما أعود لكتب التاريخ أرى مصر واثقة من نفسها فتدرس علوم الإغريق والرومان ويدعو د. طه حسين لتدريس اللغة اللاتينية القديمة ، مع انه في أيامنا تلك يصدمنا البعض في برلمان السذاجة بالدعوة إلى وقف تعليم اللغة الانجليزية لأنها حرام وبدعة .
ترد أميرة على هذا الخبل بتعليقات تعكست إيمانها الوطني وحبها لمصر الفنانة النابضة بالعلم والموسيقى والاضطلاع على تجارب الآخرين .
وقد درست المطربة الأوبرالية في مؤسسات مصر التي قامت في عهود الطموح للخروج من نفق الظلام والجهل . وقد حصلت على أعلى الدرجات العلمية وأكملت دراساتها بالخارج في فرنسا ودرست علوم الإلقاء الاوبرالي على يد عدة مدارس : إيطالية ومصرية وفرنسية ، في عناق متميز بالثقة في النفس والإرادة الفنية القوية .
وقد قدمت الفنانة المصرية العالمية عدة عروض على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة . كما أنها تقيم الآن بين مصر وفرنسا وتنفتح في عاصمة النور على الجديد في مجالات الغناء والموسيقى . وتشارك في أوبرات تساهم فيها بصوتها الرائع العاكس لخبرة طويلة من الثقافة والتحصيل والمتابعة الدائمة والمتجددة .
وأميرة سليم وتاريخ تكوينها الفني والعائلي يصح أن يكون علامة على تطور مصر خلال مراحل التعليم ونمو الطبقات المصرية المؤمنة بالفن والعلم معاً . فهي تنتمي إلى أبيها الفنان التشكيلي الراحل أحمد فؤاد سليم ، الذي ترك بصمات واضحة على تطور الفن التشكيلي المصري بمدارسه المختلفة من عهد محمود سعيد ومحمد ناجي إلى عبد الهادي الجزار حتى المرحلة الراهنة . ويقف سليم بانتاجه الغزير والمميز على قمة مدرسة اهتمت بالبحث عن أسلوب جميل يعانق الرومانسية والخيال الجامح مع ارتباط بالبيئة واستلهام رموزها وأجواء الحياة المصرية . أي ربط المعاصرة بالاصالة والخصوصية البيئية .
ونمت الفنانة المصرية في منزل يحتضن الرسم مع الموسيقى ، فالأم هي الأكاديمية الموسيقية مارسيل متى عازفة البيانوالعالمية والمتخصصة في تدريسه لأجيال لمعوا في حقل العزف على تلك الآلة البديعة  .
هذه التربية المتألقة بجناحي الموسيقى والرسم كان لها فضل التكوين الفز وجاءت شخصية أميرة وحبها للثقافة وانفتاحها على التعليم والتدريب والرحيل إلى فرنسا والاضطلاع على مدارس أوبرالية فرنسية إيطالية وألمانية تصنع هذه البوتقة الجميلة .
لمعت أميرة خلال الآونة الاخيرة في عرض أوبرالي هو ذاته قصة قوية على عناق الاصالة بالمعاصرة . فقد اتجه الفنان المايسترو والمؤلف الموسيقي هشام جبر لتفسير مسرحية توفيق الحكيم
< براكسا > إلى لغة الأوبرا العالمية .
هذه المحاولة بعينها هي الصورة لعناق الفكر المصري مع الأدب بأسلوب التعبير الأوبرالي . فقد حول الفنان هشام جبر نص الحكيم إلى أوبرا ناجحة اعتمدت على عناصر متعددة في العزف والصياغة والتأليف الموسيقي وأعطت دور البطولة لأميرة سليم .
تم تقديم العرض في القاهرة واتجه المؤلف بالأوبرا إلى سلطنة عُمان ، حيث دار الأوبرا الجديدة التي أطلت بالأضواء على منطقة الخليج كله مما يعكس انعطافة بارزة نحو الفنون الموسيقية الراقية .
نجحت < براكسا > وأميرة سليم وهشام جبر  في تجربة رائعة تعبر عن عناق الفنون والنصوص والأفكار وتقديم اللوحة الخاصة بالتفسير المصري وانفعال أجيال شابة بنبرات الفنون ووصلها بأطر الموسيقى الحضارية الإنسانية وعلى قمتها فن الاوبرا بكل خصائصه المميزة والمبهرة .
أميرة سليم هي صوت جيلنا والمعبرة عن خصوصية الحلم المصري الجميل . والاستماع إليها يعطي الأمل في عودة رياح الربيع لتزدهر على أرض الوطن بهذا العبق الشديد التألق وبالإصرار على تفتح أزهار النيل بكل عطرها النفاذ المحب للحياة ولضوء الشمس.
ويذكر محب الاوبرا في مصر العرض الاوبرالي للعمل الفذ للموسيقار الفرنسي ليو ديليبس < لاكميه > حيث أدت أميرة دور البطولة وتألقت في العرض وحازت على إعجاب المشاهدين خصوصاً المقاطع الغنائية التي تستلهم أغنية الزهور وتشاركها مطربة أخرى في هذا الدويتو الذي كان قمة في الآداء والتعبير الجارف عن عواطف القلب الملتهبة .
كلما شدني الحنين إلى مصر وهو يحلق في عالمي خلال ساعات اليوم ، أتجه لسماع صوت أميرة سليم ، الذي يحمل نسمات النيل بزخم الكلمات وألحان تؤديها تحمل بصمات موتسارت ، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن أعماق صوت المطربة الأوبرالية ، بهذا الشجن المصري المعانق لبهجة خفية فرحة بتدفق الحياة واستمرارها وقدرة النور الانتصار على سحب الظلام .