أفضل المقالات في الصحف العربية

09:31 صباحًا EET

المرحلة الثانية من الثورة المصرية

المرحلة الثانية (30 يونيو/ حزيران) للثورة المصرية الثانية في العصر الحديث تواجه المؤرخين والمراقبين بأسئلة بلا إجابات واضحة، مقارنة بالمرحلة الثانية من الثورة الأولى في 1919.

المرحلة الأولي (25 يناير/ كانون الثاني – 11 فبراير/ شباط) من ثورة 2011 كانت خاطفة، 18 يوما فقط، انتهت بتسليم الجماهير زمام الأمور لمؤسسة تثق الأمة تاريخيا في وطنيتها، وانصرفت أغلب الجماهير المشاركة (لم يشارك الصعيد والريف فيها بعكس ثورة 1919 أو مرحلة 30 يونيو التي شملت مصر كلها) إلى مشاغلها اليومية «مؤمنة» بقدرة الممسكين بزمام الأمور، على تحقيق «أمنيات الثورة» بذهنية جماعية خلقها نظام 23 يوليو، أدت لاتكالية المواطن على الدولة الأبوية برعاية شؤون (والتحكم في حياة) المصري منذ استخراج شهادة الميلاد حتى استخراج شهادة وفاته.

اتسمت المرحلة الانتقالية الأولى بقرارات فوقية من المجلس العسكري لقيت التأييد أو الاعتراض بالمظاهرات وأحيانا الاشتباكات.. مرحلة تشبه فوضى الثورة الفرنسية مع غياب المقصلة.

وبمقارنة جيلي الثورتين تجد أن زعامات 1919 (قادة المرحلة الأولى التي استمرت لقرابة عامين) تمتعت بمستوى راق من التعليم والثقافة السياسية – بنظام بعثات محمد علي باشا فإبراهيم باشا. وحوّله رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك إلى حجر أساس التعليم العالي – ورسمت استراتيجية لما بعد هدف الاستقلال: بناء مؤسسات الدولة الحديثة بوعي وطموح لا يقلان عن مستوى نظرائهم من الإصلاحيين والمفكرين الأوروبيين في نهاية القرن التاسع عشر.

جيل المشاركين (وليس فقط القيادات) في ثورة 1919 فكر بذهنية حرية الفرد وحقوقه المدنية والسياسية، والمحرك كان المبادرات الفردية في السياسة والاستثمار الاقتصادي بحركة من القاعدة بمسؤولية الفرد وعمله على تحقيق أحلامه وليس بمظاهرات تطالب الدولة الأبوية بتوفير الوظائف والمسكن وزيادة الرواتب.

بمتابعة الجدل في «فيس بوك» والمدونات والبرامج الحوارية تجد جيل ثورة 2011 يعيش ذهنية استمرار الدولة الأبوية في دعم السلع ومنح العلاوات وتوظيف الخريجين وإسكانهم.

باستثناء شعار إسقاط النظام (مبارك في المرحلة الأولى والإخوان في الثانية) يصعب اكتشاف الأهداف البعيدة المدى لثورة 2011 – 2013.

ثورة 1919 كانت منهجية الأهداف SYSTEMATIC OBJECTIVES بأسس قانونية. الشعب جمع التوقيعات لتفويض سعد زغلول باشا وفريق المحامين (الوفد) لتمثيل مصر دوليا لإنهاء الوصاية فالاستقلال. بالمنهجية نفسها في عقد الثلاثينات وقع مصطفى النحاس باشا (حكومة الوفد) معاهدة 1936 بجلاء القوات البريطانية في 20 عاما (يونيو/ حزيران 1956) مع دفع بريطانيا رواتب العاملين ومصاريف المقاولين وإيجار القواعد في القنال والمتوسط.

وحتى في منفاهم، استمر قادة 1919 في رسم سياسة (خارطة الطريق بالتعبير المعاصر) ونقاط أساسية لدستور أوكلوا للمحامين (وليس للجنة واسعة هلامية التخصصات) صياغته؛ فجاء «الدستور باشا» 1923 أحد أعظم دساتير العصر بمستوى أوروبا وأميركا.

ثورة 1919 لم تكتفِ قيادتها، كعقل ريادة الأمة، بتسيير المظاهرات، بل انشغلت بصياغة استراتيجية ما بعد الثورة لبناء الدولة العصرية، بمؤسسات سياسية وتكامل اقتصادي.

بعقلية الإصلاح الأوروبي Modern Reform اختارت قيادات ثورة 1919 النظام البرلماني في دولة القانون الملكية الدستورية، وقاعدتها خطة اقتصادية من بديهية تاريخية أنه لا توجد ديمقراطية برلمانية وحرية مجتمع متكاملة بلا اقتصاد حرية السوق وحرية الملكية وتقليص دور الدولة لمجرد التشريع لحماية المستهلك والمنتج والمستثمر وتفعيل قوانين التوازن بينهم. فالاقتصاد المتحرر الذي خطط له طلعت حرب باشا ومستشاروه كان الدعامة الاقتصادية للنظام البرلماني التعددي الديمقراطي.

وإذا كانت المكاسب السياسية لثورة 1919 تمثلت في استقلال مصر ودستور 1923 والديمقراطية البرلمانية وتحرير المرأة (ميدان التحرير تغير اسمه من ميدان الإسماعيلية عندما خلعت النسوة في مظاهرتهن فيه البرقع العثماني عند عودة سعد باشا من المنفى وسرن إلى البرلمان مطالبات بالمساواة والتصويت فسمي ميدان التحرير) فإن مكاسبها الاقتصادية كانت تأسيس بنك مصر ونجاح الرأسمالية المصرية في بناء صروح صناعية واقتصاد قوي عالمي الصيت والتوسع في التعليم وتحويل الثقافة (السينما والمسرح والكتاب) إلى صناعة تصدير، وبالتالي المكاسب الشعبية بخلق فرص العمل مما أدى لارتفاع مستوى المعيشة.

سبب المقارنة متابعتي برامج حوارية مع زعماء التيارات المشاركة في الثورة، خاصة من سيخوضون انتخابات الرئاسة المصرية.

غلب التشاؤم تفاؤلي المؤقت (الذي صاحب مظاهرات 30 يونيو) ليس فقط من تدني التعليم ومستوى الوعي السياسي وغياب الرؤية عن زعماء تيارات سياسية اليوم (مقارنة بقادة ثورة 1919) فحسب، بل تناقضات محتوى برامجهم السياسية مع الواقع المصري.

آخرها حوار مطول في قناة تلفزيونية مع زعيم أحد التيارات الشعبية. اختلط الأمر على المشاركين في الحوار بين الشعارات السياسية والبرنامج السياسي المقدم للناخب. الزعيم السياسي أطلق شعارات عن تأسيس ديمقراطية تمثيل نيابي (لم يفسر أيريد نظاما برلمانيا كبريطانيا أم رئاسيا كأميركا). وركيزة فكره اشتراكية النظام الناصري من الستينات وتأكيد مفهوم ودور الدولة الأبوية والدعم بلا ذكر أرقام أو مصادر تمويل ميزانية دعم الخدمات ورفع الأجور التي يعد بها. أثبت التاريخ وكل الأنماط الاقتصادية السياسية بلا استثناء استحالة وجود نظام ديمقراطي برلماني تعددي حر في إطار نظام اشتراكي تتسلط فيه الدولة على الاقتصاد وحركة السوق، مما يعكس عبثية البرنامج السياسي المطروح واستحالة تطبيقه؛ بجانب العودة للنظام الذي طالبت ثورة 2011 بإسقاطه (نظام مبارك هو امتداد لنظام 23 يوليو/ تموز، باشتراكية أبوية الدولة).

البرامج الحوارية عكست أيضا غياب الفهم الحقيقي للدستور ووظيفته المؤسساتية عن ذهن الطبقة السياسية المصرية (زعماء التيارات والصحافة السياسية).

مثلا الأسباب التي ساقها زعيم هذا التيار الشعبي لتفضيله إجراء الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية (قال: مطلب ثورة 30 يونيو بإقالة الرئيس وانتخابات رئاسية مبكرة؛ وجزء من خارطة الطريق؛ واتفاق القوى الوطنية في اجتماع 4 يوليو… إلخ… إلخ) ليس بينها السبب (الأهم على الإطلاق) وهو التأسيس الدستوري: مؤسسة الرئاسة Presidential Office هي قمة هرم الدولة كالإطار التأسيسي الثابت الدائم لكل المؤسسات، أما الحكومة فجزء ديناميكي متغير (حسب نتائج الانتخابات البرلمانية) داخل الهرم. أو كان يمكن تبسيطه للمشاهد «الدولة هي بناء البيت من الأحجار، والحكومة هي الأثاث الذي يتغير مع انتقال الساكن الجديد»؛ فالنظام البرلماني كبريطانيا وبلدان الكومنولث ومصر 1922 – 1954 تفصل بين الدولة الثابتة المؤسسات، والحكومة المتغيرة بالانتخابات. ولم يخطر ببال مقدم البرنامج إثارة هذه النقطة الدستورية الأهم على الإطلاق.

وحتى تتفهم الطبقة السياسية المصرية أسس النظام الديمقراطي وما هو مناسب لمصر، فستستمر المرحلة الثانية من الثورة بلا أهداف واضحة.

التعليقات