كتاب 11

10:08 صباحًا EET

أحييكم من القاهرة .. تحت الصفر !!

السادسة فى صباح القاهرة .. أخبرتنى هكذا ساعة الحائط ؛ عندما فتحت عيونى المحجوزة بين أطراف البطاطين وقلنسوة الرأس التى صنعتها لى أمى من خيوط التريكو فى زمن الشباب المنصرم ؛ ولا زلت أصر على وضعها فوق رأسى كلما حل هذا الزمهرير على القاهرة ؛ وهممت أن أعيد جفونى الى وضع الإقفال .. وأسحب أطراف البطاطين الدافئة لأغوص مرة أخرى فى النوم ؛ ولكنه الشتاء الذى يجبرك أن تقوم بجولات ليلية بين سريرك والحمَّام وبالعكس ..

ولكن خلاص : طار النوم من عيونى .. واشتقت الى الاصطباحة الضرورية من شاى ساخن .. يعقبه دورين قهوة مضبوطة مع دخان السجاير .. الذى ماأن يفوح فى الأجواء حتى يصل اليك صوت ( الحكومة ) معجوناً بالنوم : بأن الدخان وصل الى الخياشيم ؛واحسن لك ( تاكُل )لقمة بدلاً من هذا الهباب ده على الصُّبح !! ولكنى أقوم بحَبْك ـ بفتح الحاء وسكون الباء ـ القلنسوة على أذنىَّ لأتظاهر بعدم وصول التحذير الحكومى .. لأجلس أمام الورقة البيضاء التى تنتظر أن يجىء الى مزاجى ( فعل الكتابة ) .. لتتداعى الى ذاكرتى ذكريات الصبا فى مثل هذا الشتاء الزمهرير ونحن نصنع ـ كأسرة ـ حلقة مستديرة حول ( الرَّاكية ) وهى القصعة المملوءة بالخشب والفحم المتوهج ؛ ونرتدى البيجامات الكستور ( وكلنا لون واحد صبيان وبنات ) ؛ لأننا لم نكن نعرف دفايات الكهرباء بعد ؛ ونستمتع بطقطقة قشرة ( أبو فروة ) الخشبية فى النار .. لنلتقطها ساخنة ونقلِّبها بين كفوفنا لتبعث الدفء فى الأطراف المتجمدة ونحن جلوس القرفصاء على ( الشلت ) ؛ ونتبادل اخبار الدنيا والعائلة وآخر المواليد وآخر الخناقات وآخر واحد اشترى ( صندل باتا ) الذى نحسده عليه .. وكانت الجلسة حميمية نفتقدها فى تلك الأيام الفيسبوكية الباردة اللعينة ؛ وكل منا يجلس الى ( لاب توبُّه ) منفصلاً عمن حوله وعن الدنيا .. ويتكلم مع أخيه على الانبوكس !!

وبالأمس ومع زيادة موجة البرودة والأمطار .. تذكرت تلك الجلسة الحميمية ..أردت أن أعمل فيها ( أبو على ) ؛ وذهبت لشراء كمية من هذا الـ ( أبو فروة ) لأسمع طقطقات قشرته فوق الدفاية الكهربائية .. ولكنى فجأة استبدلته بكمية من البرتقال .. لأنى اتكسفت أقول للفكهانى ( باللغة العربية الفاكهى ) : اننى فوجئت بأن حفنة من هذا الشىء بطعم البطاطا المشوية تصل الى عشرين جنيهاً وهى تسمح بكمية هائلة من البرتقال من النوع المحترم !! وعدت بأكياس البرتقال .. لتستقبلنى حكومتى السنيَّة صارخة : بأن ( فوق التلاجة ) كمية من اليوسف أفندى لم يمسسها أحد .. وستتعفن وستؤول الى ( صفيحة الزبالة ) .. وفين ياعم أبو فروة اللى صدَّعت دماغنا به وبحكاياتك معه فى الزمان الغابر ؛ ونجلس تحت البطاطين فى انتظار تشريفك مع سيادته .. وبالصلا ع النبى اقلع الجزمة على باب الشقة علشان السجاجيد .. والبرتقال مش ح ينضّف السجاجيد اللى طالعة عينينا فى تنضيفها !! وأعض أصابع الندم .. وليتنى ماتذكرت ( أبو فروة ) ولا ( أبو جبَّـة ) !!

ولكن يبقى السؤال : هل تلك الموجة الثلجية على القاهرة ومنظر السيارات المغطاة بكمية من الثلوج التى وصلت الى نصف متر فى المناطق المكشوفة .. هى موجة لمواجهة مسيرات ـ لامؤاخذة ـ الحرائر من بقايا أولاد ذيول الاخوان .. أمام عجز أو تباطوء أو تكاسل الشرطة فى فض تلك المهزلة التى تشهدها شوارع المحافظات بعد صلاة الجمعة من كل اسبوع .. أم هى موجة ثلجية جاءت لتغسل القاهرة ومصر كلها من بقايا أدران تلك الجماعة الارهابية التى ذهبت الى غير رجعة .. وتعطى لنا السماء مكافأة التخلص من بقاياهم العفنة .. لنرى القاهرة تحت الصفر فى ليالى لم تشهدها مصر المحروسة منذ أكثر من مائة وعشرين عاماً .. حسب نشرة مصلحة الأرصاد الجوية .. او ربما رسالة من الله الينا لنشعر بمن يموتون تحت ضربات البرد القارس ونشاهدهم على الشاشات ونحن تحت البطاطين نمصمص الشفاه .. دون أن نسعى الى صنع شىء تجاه تلك الطبقات المعدمة التى لاتعرف طعم الدفا .

مع قهوتى المُّـرَّة .. التى تكون كالشهد المصفَّى معك عزيزى القارىء ؛ وأنت تقرأ تلك السطور ربما تقول : ماتلك التخاريف التى صنعها برد القاهرة تحت الصفر فى دماغى ؟ ولكنى أردت ألا أترك الورقة البيضاء أمامى فارغة من نغبشات قلمى فى هذا الصباح .

التعليقات