آراء حرة

12:02 مساءً EET

د. أماني فؤاد يكتب : حكومة بلا خيال

يمارس العقل البشري علاقة الاختلاف مع الواقع بالخيال ، وبالخيال المستند علي الابتكار والإبداع يجدد ويطور الإنسان الواقع المحبط الذي يرفضه ، فهو يحرر الثقافة السائدة ولا يجعلها تكرر نفسها ، او تماثل الماضي المستمر بقوة وسطوة الاعتياد والجاهزية في الحاضر.

لم تعد الممارسات السلطوية الماضوية ، غير المستندة علي رؤية واسعة ، وحيوية خلاقة ، ملائمة للسياق الجديد الذي تعيشه مصر الأن في ظل مناخ ثوري ، وأوضاع ثقافية اقتصادية غاية في التدني ، و يتطلب هذا من أية سلطة تتولي أمور البلاد أن تنجو بنا من التكرار التقليدي الذي اكتوي به الشعب في العقود الكثيرة الماضية ، وتهرب من الموروث المنجز والمكرس له من سلطات سابقة ، اختلفت مسامياتها لكن لم تختلف مماراساتها القمعية والانتهازية ، فخرج عليها المصريون منددين ورافضين . حتي هذه اللحظة لم تأت علي رأس السلطة حكومة تمتلك رؤية للمستقبل ، لديها منهج موضوعي ومدروس ، غير تقليدي ، قادر علي التفاعل مع اللحظة السياسية الحرجة ، وشغل المصريين بقضاياهم الحقيقية المتعلقة بالبناء والعمل ، ورسم خريطة مستقبل تهب أملا .

هناك كثير من الظواهر سأشير إلي بعضها في هذا المقال ، وجميعها تدلل علي أن البلاد تتولى أمورها حكومة بلا وعي سياسي ناضج ، غير مستوعب لمحددات المشهد المختلفة ، كما أنها تفتقد الحنكة والتمرس السياسي ؛ لاستيعاب القوي الموجودة بالشارع المصري : ــ يتبدي أول مظاهر فشل الحكومة في أن يبقي القضاء مسيسا ، وأن تخرج عنه أحكام مثل حكم فتيات الإخوان المتظاهرات ، بمثل هذا التشدد ، لبنات لم تتعد أعمارهن العشرين عاما ، وفي ظل هذا السياق المحتقن الذي تعيشه البلاد . ــ ظهور قانون التظاهر بهذه المواد ، والذي كان الغرض الرئيسي منه في هذا التوقيت الحد من مظاهرات الجماعة والمتعاطفين معها ، ثم رفض الحكومة طرحه للتعديل رغم الانتقادات التي وجهت له ، ورغم أنه يحتوي عوارا واضحا ، فهو لا يتعرض في أي من بنوده لشكل الجزاء الذي ينبغي أن يقع علي المؤسسة الأمنية لو أنها تجاوزت في حق المتظاهرين ، أو ألحقت بأي منهم ضررا ، كما أنه لا يقيد رد فعل الشرطة و ضرورة تناسبه مع ممارسات المتظاهرين ، دون مغالاة في إجراءات الفض ، كما أن اشتراط الحصول علي أذن من القضاء حال رفض الشرطة لإخطار التظاهرة يُقلم حق المواطن في التعبير عن رفضه ، بل ويجعل الأمر عبثيا ، فهو حق قد أُعطي بيد وحجب باليد الأخري . ورغم أني أشجع صدور قانون ينظم حق المواطن في التظاهر إلا أنني أراه بحاجة إلي مراجعته وتعديل مواده ، ولو أن هناك حنكة سياسية وتشريعية لأجلت الحكومة ظهور هذا القانون لحين وجود مجلس النواب المنوط به التشريع ، فالإخوان لن يلتزموا به الأن أو لاحقا ؛ لعدم اعترافهم بالسلطة التي أخرجته ، كما أن التوقيت الذي ظهر فيه القانون جمع دون قصد بين الإخوان وقوي ضد الانقلاب مثل “حركة 6 أبريل” الفوضوية ، وهو مالا يجب أن يحدث في هذه اللحظة ، لو أن هناك فطنة إدارة الأزمات .

ــ يتبدي فشل الحكومة أيضا في أحد تجلياته في التقصير عن احتواء طلبة الجامعات بمشروع فكري ثقافي ، يشرح الموقف السياسي المصري ، ويطرح بدائل رؤيوية للمتشددين منهم ، خاصة وأن الجميع يعرف أن تلك القوة لايمكن ضبطها لمقتضيات السن واندفاعاته ، كما أنها غير مقيدة بضغوط العمل والالتزامات الأسرية ، لذا تعد قوي قابلة للاشتعال السريع .

ــ تدلل أحداث جامعة القاهرة يوم 28 نوفمبر، والتي راح ضحيتها طالب الهندسة الذي لا ينتمي لأي تنظيم سياسي ، علي حالة من الفوضي والسيولة في التنسيق بين أداءات مؤسسات الدولة ، رغم وجود الأمن أثناء الواقعة ، لو أننا حللنا هذا المشهد لوجدنا أنه لم تزل هناك استباحة لحرمة الدم ، كما تظل فزاعة الطرف الثالث الخارج عن السيطرة الأمنية ، وعدم تحديد هويته ، كما تستمر بعض الممارسات العنيفة للشرطة في فض هذه التظاهرات ، وهو ما سيعيد أزمة الثقة مابين الشعب والمؤسسة الأمنية مرة أخري ، بل ويضع علامات استفهام حول أداء ونزاهة الأمن حيال إراقة الدم . لو أن هناك خيال لحكومة تشكلت بعد ثورة ومدها التصحيحي ، لشغلت الشباب لا بقوانين وأحكام ترسخ لاستمرار ما خرجوا في ثورتهم لرفضه من فقد الحرية والعدل والكرامة ، بل دمجتهم في مشاريع كبيرة ، توظف فيها طاقاتهم ، وتدر عائد علي الاقتصاد المصري الذي ينهار ، لأوجدت أو فعَّلت علي سبيل المثال : مشروع لاكتفاء الذاتي من القمح ، أو مشروع تنمية محور قناة السويس بطريقة الاكتتاب ، للتغلب علي أزمات التمويل وقلة الموارد . لو أن هناك منهجا لمكَّنت الشباب من كوادر الصفوف الثانية ، في كل المؤسسات والمناصب ؛ لتكسبهم الخبرات التي يحتاجون إليها ، كما تستفيد من رؤاهم الجديدة والثورية ، لو توفر الخيال والدراسة لوجهت لمشروع تعليمي ثقافي ، يقضي علي الأمية والعشوائيات ، ويوفر المشروعات الصغيرة التي تحرك الركود الاقتصادي ، و تشجع التصنيع بصفة خاصة . الإبداع في السياسة كما الفن ، مُنقذ للحكومات القادمة من الوقوع في شرك التكرار والتكريس للدولة القديمة ، بعناصرها التي لم تعد مقبولة ، ولا رؤاها التي لم تعد تُناسب السياق الاجتماعي الثوري الذي تحياه البلاد .

التعليقات