مصر الكبرى

08:22 صباحًا EET

ثقافة الإنتاج .. دليل للممارسة الجيدة

آدم سميث.. هو أحد كبار المفكرين في مجال الاقتصاد السياسي في عصر التنوير (القرن الثامن عشر) وأبو نظرية اقتصاد السوق الحر. يقدم آدم سميث في كتابه الأشهر "ثروات الأمم" تعريفاً للثراء يعتبر أن العمل لا الأموال والمعادن النفيسة هو مصدر الثروة. فالثروة الحقيقية بالنسبة له هي "مجموع ضروريات الحياة وكمالياتها"، وهي ثروة لا يمكن تحقيقها سوى من خلال العمل. قبل ذلك بأربعة قرون، قال ﺍﺒﻥ ﺨﻠﺩﻭﻥ في مقدمته: "إﻋﻠﻡ ﺃﻥ ﺍﻟﻜﺴﺏ ﺇﻨﻤﺎ ﻴﻜﻭﻥ ﺒﺎﻟﺴﻌﻲ ﻓﻲ ﺍﻻﻗﺘﻨﺎﺀ ﻭﺍﻟﻘﺼـﺩ ﻓـﻲ ﺍﻟﺘﺤﺼﻴل ﻓﻼ ﺒﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺭﺯﻕ ﻤﻥ ﺴﻌﻲ ﻭﻋﻤل ﻭﻟﻭ ﻓﻲ ﺘﻨﺎﻭﻟﻪ ﻭﺍﻗﺘﻨﺎﺌﻪ…ﻓﻼ ﺒﺩ ﻤﻥ ﺍﻷﻋﻤـﺎل ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻴﺔ ﻓﻲ ﻜل ﻤﻜﺴﻭﺏ ﻭﻤﺘﻤﻭل."

ويرى آدم سميث أن الدولة يجب عليها أن تعمل على إثراء الشعب وهذا لا يتأتي سوى من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة نسبة الأفراد العاملين. ويأتي تقسيم العمل إلى مهام محددة في طليعة الطرق التي يقترحها سميث لزيادة الإنتاجية بل ولمضاعفتها كما يوضح في مثاله الشهير لمصنع الدبابيس، حيث وجد أن العامل الواحد ينتج عشرين دبوساً يومياً بينما سمح تقسيم عملية إنتاج الدبوس إلى ثمانية عشر خطوة والاعتماد على عشرة أفراد فقط من العمالة المتخصصة بإنتاج خمسة آلاف دبوس في اليوم، أي أضعاف ما يمكن أن ينتجه العامل الواحد. يقول آدم سميث في كتابه إن الصناعة الواحدة قد "ﺘﻔﺭﻋﺕ ﺇﻟﻰ ﺼﻨﺎﻋﺎﺕ ﻋﺩﻴﺩﺓ ﻴﻜﺎﺩ ﺒﻌﻀﻬﺎ ﺃﻥ ﻴﻜﻭﻥ ﺼﻨﺎﻋﺎﺕ ﻤﺴﺘﻘﻠﺔ ﻗﺎﺌﻤﺔ ﺒﺫﺍﺘﻬﺎ، ﻓﻬﻨﺎﻙ ﻋﻤﺎل ﻴﺨﺘﺼﻭﻥ ﺒﻌﻤﻠﻴـﺔ ﺴـﺒﻙ ﺍﻷﺴـﻼﻙ، ﻭﺁﺨـﺭﻭﻥ ﻴﻤـﺩﻭﻨﻬــﺎ ﻤﺴﺘﻘﻴﻤـﺔ، ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ ﻴﻘﻭﻤﻭﻥ ﺒﺘﻘﻁﻴﻌﻬﺎ، ﻭﻓﺭﻴﻕ ﺭﺍﺒﻊ ﺒﺴـﻥ ﺃﻁﺭﺍﻓﻬـﺎ، ﻭﺨـﺎﻤﺱ ﺒﻭﻀـﻊ ﺭﺅﻭﺴﻬﺎ، ﻭﺴﺎﺩﺱ ﻴﻘﻭﻡ ﺒﻠﻔﻬـﺎ ﻓـﻲ ﺍﻟﻭﺭﻕ ﻭﻭﻀﻌﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻨﺎﺩﻴﻕ، ﻭﻫﻜﺫﺍ ﺤﺘﻰ ﺼﺎﺭﺕ ﺼﻨﺎﻋﺔ ﺍﻟﺩﺒﺎﺒﻴﺱ ﻤﻭﺯﻋﺔ ﻋﻠﻰ ﺜﻤـﺎﻨﻲ ﻋﺸﺭﺓ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻴﻘﻭﻡ ﺒﻜل ﻭﺍﺤﺩﺓ ﻤﻨﻬﺎ ﻓﺭﻴﻕ ﻤﺘﺨﺼﺹ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﺎل، ﺒﻴﻨﻤﺎ ﺘﻭﺠﺩ ﻤﺼﺎﻨﻊ ﻴﻘﻭﻡ ﺍﻟﻔﺭﻴﻕ ﺍﻟﻭﺍﺤﺩ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﺎل ﻓﻴﻬﺎ ﺒﺄﺩﺍﺀ ﺍﺜﻨﺘﻴﻥ ﺃﻭ ﺃﻜﺜﺭ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺎﺕ."
ويرى علماء الاقتصاد الحديث أن تقسيم العمل إلى مهام والاعتماد على التخصص هو أساس تقدم الدول لأن التركيز على مهمة انتاجية واحدة يزيد من مهارة الفرد ويسمح له باتقانها والابداع فيها. كما أن ﺘﻘﺴـﻴﻡ ﺍﻟﻌﻤل يحد من صعوبته مما يؤدي إلى ﺍﻟﺭﺨﺎﺀ ﺍﻟﺸـﺎﻤل ﺍﻟﺫﻱ ﻴﻤﺘﺩ ليشمل الناس بكافة مستوياتهم. ومهمة هيئات الجودة حالياً في المجالات المختلفة هو القيام برصد كافة مهام العمليات الإنتاجية بمراحلها المختلفة لتقديم دليل شامل ومتكامل للممارسة الجيدة.
لعل هذا هو ما نحتاجه حالياً في كافة المجالات في مصر، وخاصة مجال السياسية: دليل للممارسة الجيدة يقضي على الارتجالية والعشوائية السائدة ويضع بعض المنهجية التي من المؤكد، إن لم تحدث تغييراً جذرياً، سيكون لها مردوداً إيجابياً على تطوير الأداء.
إن دليل للممارسة الجيدة ليس كتاباً نظرياً جامداً غير قابل للتعديل ، بل على العكس فلكي يكون الدليل ناجحاً يجب أن يأخذ في الاعتبار معوقات البيئة الحالية حتى يستطيع طرح ممارسات واقعية قابلة للتنفيذ، ثم يتم بصفة دورية مراجعة هذا الدليل وفقاً للمتغيرات. إن عدم وجود دليل دقيق وواقعي في نفس الوقت متناسب مع الأوضاع الراهنة، هو الذي يؤدي إلى إهدار الوقت والمجهود والمال وانتشار اليأس من عدم امكانية تغيير الأوضاع. ففي مجال التعليم على سبيل المثال (مجال عملي)، هناك العديد من المشاريع والبرامج القومية التي تهدف إلى تطوير قدرات المعلم وتنمية مهاراته، غير أن هذه البرامج في مجملها برامج أجنبية تم تطويرها لبيئات دول مختلفة عنا وبالتالي لا يعرف المعلم-المتدرب كيف يمكنه تطبيق ما تعلمه في ظل معوقات واقعه المهني مما يرسخ لديه قناعة عن عدم امكانية تطبيق ممارسات جيدة في ظل الواقع الحالي ويركن إلى فكرة أن تغيير الوضع الراهن يفوق قدرته. هذا الموقف كان يمكن تلافيه إذا لم يتم إغفال مرحلة المتابعة في العملية التدريبية، فالمعلم لا يحظى بعد انتهاء الدورة التدريبية بأي متابعة في عمله مع الطلاب لضمان تمكنه من المهارة التي تم تعلمها عبر التدريب. وبالتالي فإن تجاهل مرحلة المتابعة في العملية التدريبية يكون قد أفشل التدريب كليةً وتسبب في إهدار الوقت والمجهود والمال.
والسؤال هو: هل يمكن عمل دليل للممارسة الجيدة يوضح تفصيلاً ويقسم العمل في المجال السياسي والحزبي؟ فالساحة السياسية تشهد حالياً نشأة العديد من الأحزاب التي ستشارك في الانتخابات القادمة، فهل هناك عمل دليل للممارسة الجيدة في بناء المؤسسات الحزبية؟ دليل لكيفية وضع وتقييم سياسات وبرامج "قابلة للتنفيذ" وليس مجرد وعود براقة؟ دليل لكيفية إدارة حملات انتخابية؟ فهذه كلها عمليات وأنشطة ينبغي تحديد مراحلها ومهام كل مرحلة وتدريب الناس عليها بصورة تخصصية.
إن دليل الممارسة هو الخلاصة المبسطة التي يقدمها المتخصصون لضمان نجاح النشاط. أعتقد أن هذا هو ما نحتاجه حالياً لوضع حد للتخبط والعشوائية التي نعاني منها ولتطوير أداء الأحزاب.
من الحافز الاقتصادي إلى الحافز السياسي
أدرك آدم سميث في كتابه "ثروات الأمم" أن النزعة الطبيعية لدى الأفراد للتحرك ترجع إلى المصلحة الفردية، وتساءل كيف يمكن لمجتمع يسعى كل فرد فيه إلى تحقيق مصلحته الذاتيه أن يحافظ على تماسكه دون أن يحتاج لسلطة تضع خطط مركزية مكبلة؟ لحل هذه الإشكالية، توصل آدم سميث لآلية تسيير بواسطتها مصالح الناس الشخصية في اتجاه يتفق مع مصلحة المجتمع، هذه الآلية أطلق عليها آدم سميث مصطلح "اليد الخفية". الفكرة ببساطة هو أن النشاط المدفوع بالمصلحة الشخصية للأفراد يمكن أن يؤدي لغناء ورفاهية المجموعة؛ فإذا كانت المصلحة الذاتية هي التي تدفع الأفراد إلى العمل لتحقيق الأرباح فإن "اليد الخفية" هي التي تمنعهم من فرض أسعار فاحشة خوفاً من المنافسة. فاليد الخفية هي القواعد والآليات التي تمنع شيوع الفوضى والظلم. ويوضح آدم سميث إننا لا نتوقع عشاءنا من كرم الجزار أو الخباز لكن نتوقعه من رعايتهم لمصلحتهم الذاتية، ﺇﻨﻨﺎ ﻻ ﻨﺨﺎﻁﺏ ﺇﻨﺴﺎﻨﻴﺘﻬﻡ ﻭﺇﻨﻤﺎ ﻨﺨﺎﻁـﺏ ﺤـﺒﻬﻡ ﻟـﺫﻭﺍﺘﻬﻡ، ﻭﻻ ﻨﺤﺩﺜﻬﻡ ﺃﺒﺩﺍً ﻋﻥ ﺍﻷﺸﻴﺎﺀ ﺍﻟﻀﺭﻭﺭﻴﺔ ﻟﻨﺎ، ﻭﺇﻨﻤﺎ ﻋﻥ ﺍﻟﻤﺯﺍﻴﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻴﺤﺼﻠﻭﻥ ﻋﻠﻴﻬﺎ. قد يرى البعض في هذه الفكرة تشجيع على الأنانية واستهانة بالقيم والمبادئ، وقد يرى البعض الآخر في هذه الفكرة إدراكاً لطبيعة النفس البشرية التي ينبغي التعامل معها بواقعية لنرى كيف يمكن الاستفادة من رغبة الإنسان في تحقيق الثراء والسعي لتحقيق مصلحته الشخصية لتحقيق المصلحة العامة دون أن نقضي على الحافز ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ الذي هو ﺃﺴﺎﺱ ﺍﻟﻨﻤـﻭ ﺍﻟﻤﺅﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻘﺩﻡ ﻭﺍﻟﺘﺤﻀﺭ. فقوة الحافز تحي الأمل فيزيد الإنتاج أما ضعف الحافز يضعف الأمل ويؤدي إلى الكساد فيظهر اليأس عندما ﻴﻌﺘﻘﺩ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺒﺄﻥ ﺠﻬﻭﺩﻫﻡ ﻻ ﺘﻌﻭﺩ ﻋﻠﻰ ﻤﺼﺎﻟﺤﻬﻡ ﺍﻟﺫﺍﺘﻴﺔ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺠﻬﻭﺩ ﺍﻟﻤﺒﺫﻭﻟﺔ ﺘﺫﻫﺏ ﻅﻠﻤﺎً ﺇﻟﻰ ﺫﻭﻱ ﺍﻟﻘﻭﺓ ﻤﻥ ﺃﺼﺤﺎﺏ النفوذ، فتتراجع القوة المحركة للـ "ﺍﻟﻴﺩ ﺍﻟﺨﻔﻴﺔ" ﺸﻴﺌﺎ ﻓﺸﻴﺌﺎ ﺤﺘﻰ تتلاشى ﻨﻬﺎﺌﻴﺎً. وهنا يأتي دور الدولة لخلق التوازن في المعادلة ومنع تجاوزات وجشع الأفراد التي قد يودي بمصلحة المجتمع، فشرعية المصلحة الذاتية لا تتعارض مع تدخل الدولة لتقنين الأوضاع لمنع الظلم.
والسؤال هنا: ألا ينطبق ذلك على تمويل الاحزاب والحملات الانتخابية؟ ألا يجب على الدولة أن تضع القوانين والآليات الضامنة لشفافية التمويل عبر مجموعة من القواعد الواضحة تقوم عليها هيئة مستقلة؟
إن السلطة التشريعية حالياً بيد رئيس الجمهورية فهل يحق له وضع القوانين المنظمة لتمويل الحملات الانتخابية كي لا تتكرر أخطاء الانتخابات السابقة وكي يستعيد المواطن ثقته في العملية الانتخابية والعمل السياسي؟ لا يستطيع أحد أن ينكر أهمية المال بالنسبة للحياة السياسية وللأحزاب التي تحتاج دائماً إلى مزيد من الموارد المالية لتمويل أعمالها المؤسسية وحملاتها الانتخابية. ومع ذلك، لا ينبغي أن تصبح الأموال وسيلة لشراء الوصول إلى صنع القرار. كيف يمكن معاقبة ومنع التبرعات غير المشروعة وتفادي استغلال النفوذ؟ هل يجب على الحكومة وضع قيود على التبرعات من قبل الشركات والمؤسسات التجارية؟ هل يجب السماح للأحزاب بالحصول على تمويل حكومي؟ نفقات الحملات الانتخابية محددة بموجب القانون ولكن هل يتم احترام القانون ومعاقبة المتجاوز؟ قام مجلس أوروبا مؤخراً بوضع معايير لمساعدة الدول على الإجابة على هذه الأسئلة في كتيب يعرض المبادئ التوجيهية لتمويل الأحزاب السياسية والحملات الانتخابية. يقوم الكتيب بتحليل مزايا وعيوب مختلف الخيارات لتطبيق معايير الاتحاد الأوروبي دون ادعاء تقديم نموذج مثالي، غير أن الرسالة كانت واضحة: يجب على القواعد المعتمدة لتنظيم العملية الانتخابية أن تضمن المساواة بين جميع الأحزاب المتنافسة في الساحة السياسية، وتحمي استقلالهم بعيداً عن نفوذ المال. أعتقد أن هذا وقت إثارة هذه الاسئلة ومحاولة الرد عليها لتحديد ما ننتظره من السلطة التشريعية والتنفيذية الحالية لضمان شفافية وعدالة الانتخابات القادمة.

التعليقات