مصر الكبرى
استعباد الناس بـ«الريموت كونترول»
الديكتاتورية لم يعد لها شكل أو لون. الطغيان صارت له صيغ وتراكيب حديثة، ثعلبية ومراوغة. التحكم بإرادة المواطنين والتلاعب بمشاعرهم وأهوائهم واستغلالهم، هو تعدٍ سافر على الحريات، ولو مورس عليهم، بأساليب «حضارية» وهم يضحكون.
تقرأ ولا تصدق، ثم تقرأ أكثر فتصاب بالذهول. ثمة شركات اليوم تسهر على تحليل معطيات حركة المواطنين العرب على المواقع الاجتماعية، قبل الثورات، وخلالها وبعدها. هناك احتساب لنوعيات المفردات التي استخدمت قبل الثورة المصرية (اقتصادية، سياسية، اجتماعية)، ورصد لنوعية هذه المفردات بعد بدء المظاهرات. خريطة مفصلة، نشرتها «فورين بوليسي» تمكنك من رؤية حركة الثوار المصريين «بصريا» بعد أن تم تحليل تغريداتهم على موقع «تويتر». يعترف العاملون على هكذا مشاريع أن استنتاجاتهم وتحليلاتهم للمعطيات المتوفرة لديهم، ما تزال تحبو، لكنهم يقولون إنهم في أول الطريق ويبشروننا بأن الآتي أعظم. وليس لنا، والحال هذه، إلا أن نصدقهم، فالمسألة تحتاج وقتا كي تصبح مقارنة المعلومات ممكنة ونتائجها ذات مصداقية يعتمد عليها.
يعترف المنشغلون بقراءة بنات أفكارنا، بأن هامش الخطأ ما يزال كبيرا. فهناك أكثرية من العرب، ما تزال خارج نطاق الشبكة الإلكترونية، وما المستخدمون إلا نخبة قد لا تمثل الشعب بأكمله. لكن يعلق أحدهم «هذا لا يمنعنا من الاستفادة مما بين أيدينا».
صحيح أن الثورات كان لها ما يبررها، ولم تقم بفعل مؤامرة خارجية، لكن شهوة سرقة الثورات لا تقاوم، والتحكم بنتائجها في القريب العاجل أو البعيد الآجل، لا يقدر بثمن. والمتحكمون بالشبكة يتجمع لديهم، مع مرور كل ثانية، كنز يستحق الاستثمار.
تحليل معطيات المواقع الاجتماعية كان ناشطا مع الانتفاضة الإيرانية التي تزامنت مع الانتخابات عام 2009. هناك خريطة موجودة ومنشورة لتغريدات الإيرانيين قبل وبعد. ثمة رصد للتغريدات ذات الطابع الديني، ومخطط سمي بـ«الفضاء الشيعي» يظهر بوضوح وبالألوان، مكان تمركز المحافظين، ونقاط تكاثف الليبراليين، وشبكة أخرى تظهر أماكن حركة الشباب وغيرهم، ولكل منهم لون يميزه. هناك أيضا دراسة للمتغيرات التي طرأت على الأحاديث مع تطور الأحداث.
المشروع يشمل أيضا دراسة الحركات الأميركية مثل «احتلوا وول ستريت» و«حزب الشاي» فكلنا مرصود ومستهدف ويثير المخاوف، ولا شك في أن الصين مستهدفة بالتحليلات ومثلها الهند، ودول حساسة أخرى بالنسبة للأميركيين.
التحكم بإراداتنا، وقراءة نوايانا لن تتوقف، والجهود التي تبذل للتحكم بالبشرية خارقة ومذهلة. هناك من يؤكد أن التلفونات الذكية مع حلول عام 2015 ستصبح مزودة بكاميرات قادرة على قراءة الأفكار من خلال رصد حركة العين. قراءة الأفكار لن تنفع فقط في كشف الجرائم، وإنما ستستخدم كذلك لمعرفة ما يفضله حامل الجهاز وما يبغضه، لاختيار الإعلانات الأقرب إلى ذوقه وعرضها عليه في الوقت المناسب. قد تقول بأنك لن تشتري هاتفا يفضحك إلى هذا الحد، لكن الأمر يتجاوزك بطبيعة الحال، وستجد نفسك، كما العادة، هارعا لاقتناء الجهاز الجاسوس مهما ارتفع ثمنه، وكبرت تضحياتك من أجله.
فالذين قاوموا الهواتف التي تحدد أماكن وجودهم، وتسهل مطاردتهم مثل «آي فون»، وجدوا أنفسهم مضطرين لاقتنائه. وتزداد الحاجة لهكذا هواتف متى دخلت تكنولوجيا التحكم عن بعد إلى بيوتهم، بحيث يصير أحدنا مستمتعا بتشغيل جهاز التكييف قبل وصوله إلى البيت أو تجهيز الماء الساخن، وهو ما يتطلب الكشف عن مكان وجودك بصدر رحب.
ومن يقول إن كل هذا لا علاقة له برسم السياسات الخارجية، أو حتى التحكم بانتخابات محلية، فهو بالتأكيد مخطئ. فقد بات معروفا أن باراك أوباما يحضر لحملة انتخابية لم يسبق لأميركا أن شهدت لها مثيلا من قبل. فالرجل الذي فاجأ العالم عام 2008 بحملة انتخابية شابه، فيسبوكية وتكنولوجية من طراز عالٍ، يستكمل خطته بمهارة.
هذه المرة أصبح الناخبون عند فريق الرئيس أوباما مصنفين على لوائح، ومقسمين تبعا لأهوائهم وميولهم واهتماماتهم الشخصية. ففريق السيد الرئيس عمل بمثابرة النحل، منذ الانتخابات الماضية على جمع المعلومات الشخصية الدقيقة عن الأميركيين. والخطة التي ستتبع تقضي بمخاطبة كل ناخب عبر الرسائل البريدية أو الإلكترونية، وفقا لما يحب سماعه، وما ترتاح له نفسه. وهو أمر شديد الخطورة. وإذا كنت لا ترى في هذا دهاء لا يحتمل، ونفاقا لا يستحب السكوت عليه، فلا بد أنك ستصبح أقل تسامحا حين يصل الأمر لخصوصيتك الشخصية، وهو ما سيصبح واقعا، قريبا جدا، حيث ستتأكد أن ثمة من يرصد نواياك وخباياك، بالفعل، للتحايل عليك في أمر تسويق سلعة ما أو الترويج لتيار سياسي بعينه، وربما لإقناعك بفكر لا يعود بالفائدة عليك ولا على وطنك.
الكلام على الرقابة اليوم والاعتداء على الحريات الفردية أو الجماعية، ما عاد متعلقا بمنع فيلم أو سجن فنان على الطريقة العربية البائدة، التي ما تزال تمارس بسذاجة مضحكة. الرقابة بات مفهومها أوسع وأخطر، فهي رقابة عن بعد وتحكم باختياراتك بالريموت كونترول.
الرجوع إلى الوراء بات مستحيلا، لذلك ثمة من يطالب بوضع «داتا» المعلومات الهائلة التي يتم جمعها وتحليلها، في متناول الناس أجمعين، بدل أن تحتكرها سلطة أو دولة، وتستفيد منها لتتحكم بخلق الله. لكن هل هذا منطقي ومعقول؟ الأسئلة صعبة والإجابات أصعب، لذلك لا بد من الاعتراف بأن الديكتاتورية باتت كالحرباء تقاتلها على الأرض فتنقض عليك من الفضاء. انظر حولك وتأكد، حتى ولو كنت من كبار الثوار. هل أنت حر فعلا؟ وكم يلزمك من الوقت لتبدأ بالخطوة الأولى من رحلة الألف ميل صوب الانعتاق؟