آراء حرة

12:20 مساءً EET

وائل النجار يكتب : عودة الدب الروسي عبر البوابة المصرية

شهدت العلاقات المصرية الروسية عبر تاريخها الطويل والممتد فترات من التحسن وصلت إلى حد التحالف خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فيما أخذت تلك العلاقات في الفتور عقب حرب أكتوبر 1973م ووصلت إلى أدنى مستوى لها أواخر سبعينيات القرن المنصرم.

مع تولي الرئيس الأسبق حسني مبارك مقاليد الحكم في البلاد سعى إلى تحسين العلاقات مع الجانب السوفيتي ولكن على استحياء، مفضلاً التوجه غرباً وخاصة صوب الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لإنهيار الإتحاد السوفيتي عام 1991م وتفككه أكبر الأثر في تعزيز هذا التوجه المصري بعد خروج الدب الروسي من المعادلة الدولية كقوة عظمى تعادل قوة الأمريكان.
وخلال حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عمل على استعادة المكانة الدولية لموسكو، وقد نجح بشكل كبير في ذلك.
مع عودة الدور الروسي كقوة فاعلة على الساحة الدولية لاحت في الأفق بوادر استدعاء للحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وظهر ذلك جلياً في مواقف البلدين المتعارضة من ثورات الربيع العربي وخاصة الثورة الليبية والسورية وأخيراً وليس آخراً المصرية.
إن تودد موسكو للقاهرة مؤخراً يُعد حلقة من حلقات الصراع الأمريكي الروسي للاستحواذ على مناطق نفوذ وقوة في العالم.
فبعد ثورتي 25 يناير و30 يونية حدث تغير نوعي وجذري في السياسة الخارجية المصرية تلقفته روسيا وتفهمته جيداً واستغلت هذا التغير للمرور إلى منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة المصرية التي تُعد أحد أهم وأكبر دول المنطقة، لتشغل الفراغ الذي أحدثته السياسة الأمريكية المُترنحة في الفترة الأخيرة، مستفيدة من عدة عوامل سهلت عليها هذه المهمة منها التخبط الشديد الذي انتاب الإدارة الأمريكية بعد سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين، والتوتر القائم بين واشنطن والقاهرة بسبب امتعاض الدولة المصرية حكومة وشعباً نتيجة دعم الولايات المتحدة للجماعة، ومواقفها الغامضة تجاه ثورة 30 يونيو في مقابل تأييد روسي لها، كما إقتنصت موسكو خطأ تقدير الولايات المتحدة عندما قلصت مساعداتها العسكرية للقاهرة، فقدمت نفسها كبديل مناسب يُعوض مصر عسكرياً.
من العوامل التي سهلت على الدب الروسي مهمته أيضاً سقوط حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة أمثال حسني مبارك وزين العابدين بن علي، كما يجب ألا نغفل التغير النسبي في مواقف بعض الدول العربية تجاه السياسة الأمريكية كالسعودية والإمارات والأردن والكويت الذين وجدوا أن التوجه الأمريكي خلال الفترة الأخيرة يتعارض مع مصالحهم.
إضافة إلى العوامل السابقة وجدت موسكو ترحيباً شعبياً في مصر نتيجة احتفاظها برصيد جيد منذ النصف الثاني من القرن العشرين ليس للمواطن المصري وحسب وإنما للعرب جميعاً بسبب مواقفها المؤيدة لقضاياهم.
مما لا شك فيه أن عودة التقارب المصري الروسي سيُحقق عدة مكاسب مشتركة لكلا الطرفين، فعلى الصعيد الروسي تسعى موسكو للعودة إلى المياة الدافئة وبشكل خاص الموانىء المصرية، علماً بأن تواجدها الوحيد في المنطقة يتمثل في قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس السوري الذي أصبح وضعه غير آمن نتيجة الأحداث التي تشهدها دمشق.
هذا التواجد سيُمكن موسكو من تأمين مصالحها في منطقة غنية وموضع اهتمام العالم أجمع نظراً لموقعها الجيواستراتيجي الفريد، إضافة إلى تعزيز دورها كقوة فاعلة في الملفات الإقليمية الملتهبة كالصراع العربي الإسرائيلي وملف إيران، كما سيمكنها من لعب دور أكثر إيجابية في الأزمة السورية.
من جانب آخر تُعد مصر بيئة خصبة للاستثمارات الروسية في العديد من المجالات كالتسليح والكهرباء والطاقة والزراعة والصناعة.
أما على الصعيد المصري فإن القاهرة ستستفيد من هذا التقارب في تنويع مصادر تسليحها وربما مشاركة الروس في مجال تصنيع السلاح، وبالتالي الخروج من العباءة الأمريكية، الأمر الذي سيكون له أكبر الأثر في استقلال قرارها السياسي وأيضاً الإقتصادي، فضلاً عن خروج مصر من سياسة الأمريكان التسليحية القائمة على الحفاظ على التفوق الإسرائيلي العسكري على باقي الدول العربية، إضافة إلى حرمان إسرائيل من ميزة معرفة التفاصيل الدقيقة لخطط التسليح المصري عن طريق أذرعها الطويلة في البنتاجون.
إلا أنه يجب التنويه في هذا السياق إلى أن علاقة القاهرة بواشنطن مهمة جداً ومُتشعبه، خاصة إذا ما وضعنا في الإعتبار بأن مصدر التسليح الحالي للجيش المصري مازال في أغلبه من الولايات المتحدة، ولذلك لا يمكن الاستغناء عنها نهائياً.
إن تحسن العلاقات المصرية الروسية سيُساعد القاهرة أيضاً على استعادة دورها المحوري في المنطقة بعد تراجعه الشديد خلال العقد الماضي، فضلاً عن عودة مصر كرقم صعب في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية.
كما يمكن للقاهرة أن تعتمد على موسكو في مجال الطاقة وبشكل خاص الإستخدام السلمي للطاقة النووية، فضلاً عن المشروعات الزراعية والصناعية والإستثمار.
نعلم أن موسكو ليست مؤسسة خيرية ولن تسعى إلى توطيد علاقتها بالقاهرة إلا من منطلق تحقيق المصالح المشتركة، غير أن قراءة المشهد بشكل أكثر عمقاً يوضح لنا عدة نقاط يجب على القاهرة وضعهم في الحسبان والاستفادة منهم لأقصى درجة خلال تفاوضها مع الروس:
أولاً: إن رغبة الروس في تعزيز وتعميق العلاقات مع مصر في الوقت الراهن والتي قد تُوصف بالمغامرة في ظل حالة عدم استقرار الأوضاع نسبياً في القاهرة وعدم وضوح الرؤية لمستقبلها وحالة السيولة التي تشهدها البلاد تُؤكد لنا الأهمية القصوى التي توليها موسكو لبناء هذه العلاقات. 
ثانياً: روسيا تريد مصر دولة قوية تستطيع الحفاظ على مصالحها في المنطقة، بعكس الولايات المتحدة التي سعت طوال الوقت على تأطير علاقاتها مع القاهرة في قالب التبعية والضعف لعدة أسباب يأتي في مقدمتها الحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها النوعي.
ثالثاً: يجب أن تستفيد القاهرة لأقصى درجة من الصراع الدائم بين واشنطن وموسكو في تحقيق أكبر قدر من المكاسب من الجانبين، ومن هنا فإن العلاقة مع الروس لا يجب بأي حال من الأحوال أن تكون بديلة للعلاقة مع الأمريكان وإنما مكملة لها، والإبتعاد تماماً عن فكرة العلاقة “الأحادية” التي عانينا منها طويلاً منذ تحول مصر إلى النظام الجمهوري، سواءاً باعتماد الرئيس جمال عبد الناصر على السوفيت دون غيرهم أو باعتماد كلاً من الرئيسين أنور السادات ومبارك على الأمريكان بشكل كامل.
فاستعادة مصر لمكانتها ودورها الإقليمي والدولي والحفاظ على استقلالية قرارها لن يتأتى إلا ببناء علاقات متوازنة ومتنوعة مع جميع القوى التقليدية، مع عدم إغفال الدول الصاعدة حديثاً مثل الصين والهند واليابان والبرازيل وكوريا الجنوبية …     

التعليقات