آراء حرة

08:49 صباحًا EET

د . هانى عبد الفتاح شوره يكتب : من وحى الهجرة

غالبا ما ينظر بعض الدعاة والخطباء الى الهجره فى معناها الضيق الذى يقصرها على مجرد الانتقال من مكان الى مكان مع ما يعترى ذلك من الم المفارقة للاهل والوطن، وهذا المعنى يعد مقبولا فى محله ، لكنه لا يتوافق بحال من الاحوال مع المعنى الذى تجلى فى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة، فهجرة الرسول واصحابه هى مدرسة متكاملة فى شتى جوانبها الاخلاقية والاجتماعية وهى ايضا تعد فارقة فى تاريخ الاسلام كله لما انطوت عليه من تغيير لخريطة الجزيرة العربية بتحويل مركز القيادة من مكة الى المدينة.

اذا فهى ليست من قبيل الهجره العشوائية لدول اوروبا و امريكا التى يعلن عنها فى بعض الصحف استمالة للشباب الذى يغريه الطموح بالتضحية بكل غال ونفيس، لم تكن هجرة النبى كذلك وهى اعز من ان تكون هروبا من واقع الى واقع اخر ومما يدل على ذلك اختيار النبى صلى الله عليه وسلم الهجرة الى يثرب بالذات وليس  الى غيرها مع ما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال يثرب التى تتميز بالتنوع العقدى والعرقى ما بين يهود واوس وخزرج وبقايا من النصارى والمجوس ، وهذا المجتمع المفتوح لم يكن ليغرى احدا يريد الهروب من اتون الى اتون اخر فيكون كالمستجير من الحصباء بالنار، ثم ان افترضنا هذه الفكره وهى اقتصار الهجره على مجرد الفرار بالدين فكيف يكون الفرار بالدين الى مجتمع فيه تنوع عقدى ما بين يهود ومجوس وغير ذلك، الم يكن ذلك يشكل خطورة على عقيدة المسلمين الجدد اذا ما حاولوا الاندماج فى فى مجتمع المدينة لا سيما وان فيه اليهود ولهم احبار يحفظون وقد يدخلون فى جدل مع المسلمين الجدد فيشككونهم فى عقيدتهم التى ما زالت فى غضة طرية.
 والذى يراجع حديث القران عن الهجره وقد ورد ذكرها فى مواطن متعدده يجد ان الهجرة ليست بدعا فى امة محمد صلى الله عليه وسلم بل هى اصيلة فى حياة الانبياء جميعا وقد حكى القرآن عن سيدنا إبراهيم أنه قال: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). أما سيدنا لوط فقد أمر بترك قريته التي كانت تعمل الخبائث، وساعتها قال لقومه: (إني لعملكم من القالين)، والقلى يعني الهجر والترك. وموسى عليه السلام، خرج من مصر خائفا يترقب، مهاجرا حتى أتى سيناء وكانت حكايته المشهورة مع ابنتي شعيب؛ ليعود من بعد أن يمكث عشرة أعوام مع سيدنا شعيب متزوجا إحدى ابنتيه، نبيا إلى فرعون الذي طارد موسى ومن معه من المؤمنين الذين يخافون من بطش فرعون، إلا أن موسى الذي هاجر من قبل وكان موقنا بنجاة الله له، قال: إن معي ربي سيهدين، وهي نفس الكلمة التي قالها من قبل خليل الله إبراهيم عندما نوى الهجرة من أرض قومه الذين عبدوا الأصنام وأرادوا إحراقه.
والهجره التى هى موضع حديثنا لم تكن اختيارا وانما كانت اخراجا وهذا ما تدل عليه جميع الايات التى جاءت فى هذا السياق  ففى سورة التوبة يقول تعالى ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وفى سورة محمد يقول تعالى ( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) وفى سورة الانفال يقول تعالى( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)  وفى سورة الاسراء يقول تعالى( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ) وفى حديث النبى صلى الله عليه وسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِمَكَّةَ مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ.
ومعنى ذلك ان فكرة الهجره لم تكن مطروحة ابتداء ولم يات الامر صريحا بها فى القران الكريم ، وانما كان حديث القران فى معرض الترغيب فى حال ان ضاق العيش وسدت الطرق قال تعالى فى سورة النساء( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) وهذا هو الدرس الاول ان الهجرة بلا حاجة ليست مرغوبة فى ذاتها لما يترتب عليها من مفارقة الاهل والاوطان الى بلاد اخرى غريبه ، كما يضرب لنا النبى صلى الله عليه وسلم المثل فى حب الوطن وهو يخاطب مكة وكانها متمثلة امام عينيه، فهو برغم ما لاقى فيها من عنت وتضييق الا انه يهتف بداخله صلى الله عليه وسلم بتلك المشاعر الراقية نحو هذا البلد الذى تربى بين احضانه، وقضى فيه مرحلة الصبا والشباب.
 ومع ذلك فان الهجرة فى احوال اخرى تكون واجبة فى حال الخوف على الدين او النفس او العرض ، وقد تكون لازما من لوازم التخلص مما جبلت عليه النفس الى ارض اكثر رحابة وسعه وهذا يتضح فى قصة الرجل الذى قتل تسعة وتسعين نفسا  وكان دواؤه الناجع هو مفارقة تلك الارض التى يذكره ترابها واهلها بما اقترف من معصية واثم ففى الحديث عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ, انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ)

التعليقات