مصر الكبرى

07:14 صباحًا EET

‘نيران صديقة’ أبقت مرسي رئيسا لـ’جمهورية الإخوان’ وليس لمصر!

تعيش مصر مرحلة وقعت فيها قوى الثورة ومعها الجماعة الوطنية المصرية في مرمى نيران الإسلام السياسي، بأغلب جماعاته وفصائله، مع خلط متعمد بين من دفعوا الثمن غاليا في تصديهم لجرائم وانتهاكات الحكم السابق وبين فلوله، ووُضِع الجميع في سلة واحدة، وسلمت جماعات وفصائل بمنطق وطريقة تعامل جماعة الإخوان المسلمين مع المنافسين والمخالفين والخصوم، وأصبحت على قلب رجل واحد وتتحدث بلسانه.

وذلك النهج شاع مع اندفاع كثير من كتاب وقوى الإسلام السياسي اتهاما وهجوما على كل من يخالفهم ويعارض رأيهم، ظنا منهم أن ذلك يوفر حصانة وعصمة دينية لأول رئيس إخواني في تاريخ مصر، وذلك ليس في صالح الرئيس مرسي نفسه، والسبب بسيط هو أن الرئيس في الحكم الديمقراطي موظف عام يتقاضى راتبه ويحصل على الملايين التي تغطي امتيازاته وامتيازات أسرته من عرق دافع الضرائب وجهده وصحته، أي أنها من أموال الشعب، وليس من ماله الخاص، فهو موظف عام بدرجة رئيس وليس صاحب ورشة أو مالك عزبة. أما بلغة الفقه والدين فالحاكم ‘أجير لدى الأمة’ عليه طاعة من استأجره والوفاء بطلباته وتلبية احتياجاته. وعملية وضع الرئيس فوق الناس تمثل منعطفا لانتكاسة أخرى للثورة، من الواجب تداركها مبكرا.
ومع ذلك فإن المطلوب هو فهم أزمة الرئيس محمد مرسي وتقدير صعوبة الظروف التي تحيطه، ومساعدته على الخروج منها، فبجانب متاعب المعارضين والرافضين نجده يقع في مرمى ‘نيران صديقة’ من الإسلاميين، أولها نيران ‘التيار القطبي’؛ المسيطر على عقل ومفاصل الجماعة صاحبة القول الفصل في تحديد سياسة الدولة الآن، ولا نأتي بجديد إذا قلنا أنه تيار شديد التطرف، لا يعترف بحق غيره في الحياة والمساواة وإبداء الرأي والمشاركة في القرار، ولا يتحلى بمرونة تتطلبها السياسة والحكم، و’التيار القطبي’ في مواجهة مكتومة ضد تيار الإخوان التقليدي؛ صاحب الخبرة في المواءمة والمناورة والتسويات والصفقات، وينطلق من مبدأ ‘المشاركة لا المغالبة’، على العكس مما يقوم به ‘القطبيون’ من ‘تمكين واستحواذ’، والطرفان، رغم خلافاتهما، شاركوا في الثورة، لكنهما لم يكونا من مفجريها ولا من صناعها.
والرئيس محمد مرسي في مرمى نيران شباب الإخوان كذلك. وكانوا قد تمردوا على الجماعة مبكرا، ورفضوا قرار مكتب الإرشاد في 18 كانون الثاني/يناير 2011 بعدم النزول لميدان التحرير في 25 يناير، وضربوا بقرار مكتب الإرشاد عرض الحائط وشاركوا في الثورة، فكانوا من أصحاب الفضل، ولم ينتظروا ليكونوا ‘من المؤلفة قلوبهم’.وبدأ مرسي بداية غير مناسبة. فأي رئيس جديد يتصالح مع شعبه، ولا يختزله في جماعته، ويرسخ الوحدة الوطنية بين فئاته وقواه، ويحشد طاقته ويعبئها لاستكمال الثورة وتمكينها من الحكم، وهذه عقبة قد تتسبب في ضعفه وإنهاء عصره بأسرع مما يتصور، بالإضافة إلى مشروعه ما زال لا يولي اهتماما بملايين العاطلين والفقراء والمعدمين، وما زال يعلق امله ويراهن على التجار والمقاولين ومؤسسات الإقراض الغربية والسماسرة، ويبقي على مناخ الفساد، الذي تسبب في اشعال الثورة، ولا يمانع من إشاعة ‘ثقافة الشحاتة’ في تمويل المشروعات.
والمتابع لإعلانات التليفزيون المصري، الحكومي والخاص، تصدمه مساحة الوقت غير العادية لنشر هذه الثقافة، ويجند لها المشاهير والعلماء والفنانون والنجوم، وكأن مصر تُبنى بعطايا وصدقات شركات المشروبات الغازية، ومواد التنظيف وغسيل الملابس وشرائح البطاطس الأجنبية، واحتكارات الهواتف المحمولة، ويتم ترويج ‘ثقافة الشحاتة’ بفتاوى وأحاديث دينية، حتى أنك تجد في مصر ‘بنكا’ للطعام؛ ‘يستثمر’ الجوع ويحافظ عليه، كأحد أهم وسائل إذلال المواطن واختراقه وإضعافه وإفقاده كرامته، ولا يوجد في مصر مصرف للتنمية أو التصنيع أو الانتاح الصناعي أو الزراعي، كما كان عليه حالنا السابق، حين أنشأت الدولة البنك الصناعي ومجلس الإنتاج القومي، وأقامت نظاما للتعاون الزراعي حرر الفلاح من استغلال المرابين والإقطاعيين.
وتروج ‘ثقافة الشحاتة’ مع بناء ما يسمى بالصروح العلمية والطبية ويتم الاعتماد عليها ‘ مصدرا للتمويل، ونموذجها الفاضح ‘مدينة زويل العلمية’، ولم يسأل صاحبها عن مصادر تمويل الدولة الصهيونية لمنظومة صواريخها، التي ساهم (زويل) في تطويرها، وهل بنت صروحها العلمية والطبية بـ’الشحاتة’؟، والغريب أن علماء وباحثين مروجين للتسول في البرامج المرئية عملوا وشغلوا وظائف ومناصب في جامعات ومعاهد ومراكز أبحاث ومصارف ومنظمات دولية وأممية وشركات واحتكارات كبرى؛ أمريكية وغربية ومتعددة الجنسية وصهيونية. هل كان تمويل مشروعاتها معتمدا على هذه الثقافة الرخيصة وقد اعادتنا لحظيرة صندوق النقد الدولي، الذي لن يترك مصر إلا ‘خرابة’ ينعق على أطلالها البوم والغربان!.
بدت هذه النيران وكأنها غير كافية، فتفجرت أزمة التعيينات الجديدة لرؤساء مؤسسات وتحرير الصحف الحكومية، وهذه التعيينات قام بها المجلس الأعلى للصحافة التابع لمجلس الشورى، بأغلبيته الإخوانية والسلفية، الذين شغلوا أنفسهم وشغلوا الرئيس بـ’التمكين والاستحواذ’، وتم التخلص من المعارضين في الصحف الحكومية، دون رد فعل من الرئيس مرسي، وكثيرا ما يكون السكوت علامة على الرضا، ووصل مخطط تجفيف الصحف الحكومية من المعارضة حد إلغاء رئيس تحرير صحيفة ‘الجمهورية’ اليومية الجديد للصفحة الثقافية فيها، بجانب تقديم ثلاثة رؤساء تحرير صحف خاصة إلى نيابة أمن الدولة العليا بتهمة سب الرئيس!. وإذا كان فتح المعارك وتوجيه النيران إلى المعارضين والمخالفين والخصوم يهدف إلى إنهاكهم، فإنه في الحقيقة إنهاك للرئيس وحكومته ويهدد استمرارها. الرئيس مرسي يعلم جيدا أنه نجح بأغلبية قليلة تجعله يقف على الحافة، وما حصل عليه مرسي أكثر قليلا من ربع أصوات الناخبين، أي أن ثلاثة أرباعهم لم ينتخبوه، وكان على جماعة الإخوان وحزبها؛ الحرية والعدالة، البحث في أسباب ذلك الهبوط السريع والعمل على معالجتها كي لا تفاجئهم الانتخابات التشريعية القادمة وانتخابات المحليات بخصوم أقوى من الآن، والأمل هو ألا يكون فتح المعارك المتعددة سببه تصور يرى أن المنافسين أضعف من أن يهددوا حكم الإخوان، ويرون في ذلك الضعف فرصة تتيح ‘التمكين والاستحواذ’ وحسم ميزان القوة لصالحهم إلى الأبد.
وكانت عدوى الهجوم والاتهام قد امتدت إلى ‘زعيم’ حزب إسلامي (غير إخواني)؛ فاجأنا في مقال له يطالب فيه بإعادة النظر في سياسات جهاز المخابرات العامة، التي أفسدت الحياة السياسية من وجهة نظره، ويبدو أنه انتهزها فرصة لحشرنا في زمرة أقلام محسوبة على المخابرات، ومصدر المفاجأة أن ذلك ‘الزعيم’ يعرفني جيدا، وربطتنا علاقة قوية، وكان بالنسبة لي في عداد الأصدقاء الحميمين، وكثيرا ما دعاني لحزبه في فترة حصاره وأثناء تجميده، التي استمرت سنوات؛ إما لإلقاء محاضرة أو لمشاركة في ندوة أو لمساهمة في حوار حول قضايا تتعلق بالتغيير وسبل الوصول إليه على مدى أكثر من عشر سنوات سبقت ثورة 25 يناير.
لم يجد مني ذلك ‘الزعيم’ إلا كل استجابة وترحيب؛ لتبقى أبواب الحوار مفتوحة بين قوى ناهضت حكم مبارك، فتعاونت وتآزرت لإسقاطه، وانقلب ‘الزعيم’ فجأة، وبعد ما كان الذي يكتب على هذه الصفحة مادة مفضلة لديه ولدى حزبه إذا بها تصنف على أنها من أعمال المخابرات!!. ما أروعها مخابرات!، تحتضن أقلاما وشخصيات سعت وعملت على تغيير وإسقاط حكم؛ كانت مسؤولة عن حمايته وتدين له بالولاء، ومن المعروف أن ‘القدس العربي’ قد أبلت بلاء حسنا أقلق حكم مبارك وانتهى بمصادرتها ومنعها من دخول مصر، وهو قرار ساري في ظل الحكم الحالي!.
والتنويه هنا مطلوب لبيان الفرق بين ما يُكتب بقلم ‘زعيم’ حزب، وبين ما يكتبه كاتب مستقل، فكتابة الأول ملزمة لأعضاء حزبه وتتحول إلى مادة في دعاياته البيضاء أو السوداء، وفي حملاته المنظمة للتأييد أو للاغتيال السياسي والمعنوي، وقد برعت فيه كثير من جماعات الإسلام السياسي وفصائله، أما المقال والرأي، الذي ينشر في صحيفة سيارة لكاتب غير حزبي فموجه للقارئ، ويخضع للأخذ والرد منه، وقد ينقسم القراء بشأنه تأييدا له أو اعتراضا عليه، وهنا يكون خطر ما يُكتب بقلم ‘الزعيم’ على الكاتب المستقل أكبر.وأذكر هنا أنه في ذروة النشوة الإخوانية السلفية مع أولى ‘الغزوات’ – غزوة الصناديق – كتب الكاتب الكبير فهمي هويدي واصفا مخالفيه في أحد مقالاته بأنهم مصابون بـ’لوثة’؛ بمعنى أنهم يعانون من الجنون، فما كان مني من موقع الحرص أن نبهت إلى عدم جواز استخدام مثل تلك الأوصاف، وقلت ليتركها لمن هم أقصر منه قامة، وأقل منه خبرة، وأدنى منه مكانة، ولم يقلقني ما كتبه. فهو في النهاية كاتب صاحب رأي، لا يملك إلا قلمه فقط، مهما كان توجهه السياسي، أما ‘الزعيم’ الحزبي فأمره مختلف، فما يصرح به ويكتبه يُلزم ويحدد تصرفات ومواقف أعضاء الحزب وكوادره، ويحرك آلياته التعبوية والإعلامية والدعائية، وقد تعتبره جماعات متشددة فتوى؛ تسبب الأذى وتهدر الدم والكرامة!.
وما جعل لهذا الذي كتبه ‘الزعيم’ ذلك الوقع في النفس هو أننا كنا معا على مائدة إفطار رمضانية يوم الخميس قبل الماضي، وتحدثنا وتبادلنا الرأي حول ما يجري من أحداث واتفقنا على التواصل، وقد كان عائدا لتوه من لقاء رئيس الجمهورية، واتفقنا على منح الرئيس الفرصة ليسهل الحكم له أو عليه، وكان رأيه ما كان لمرسي أن يلزم نفسه بفترة المئة يوم. وفي أثناء الحديث جدد دعوته لي للكتابة في صحيفته، ووعدته بالتفكير في الأمر.
كانت خطوط الود ممتدة، ونوافذ الصداقة مشرعة، وله كامل الحق في انتقاد ما أكتب ويكتبه غيري ورفضه، ويتخذ الموقف الذي يراه، وله كامل الحق كذلك في الرد والتعقيب والتعليق، إلا أنه آثر ان يكون الرد اتهاما جزافيا من هذا النوع المتدني، وهذا ما لم أتوقعه من صديق، ولا أستطيع أن أقول له ما قلت للكاتب الكبير فهمي هويدي، فالأمر هنا ليس للتنبيه أو العتاب إنما أمر تحدي؛ يفرض عليه أن يثبت صحة ما ادعاه أو يعتذر!.

التعليقات