مصر الكبرى

07:51 صباحًا EET

كرامة إنسانية .. نزيلة مستشفى الأمراض العقلية

ذهبت بالأمس مع مجموعة لتقديم وجبة الإفطار لنزلاء ونزيلات مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية. فتاة في بداية العشرينات هي من تولت التحضير لهذا الإفطار. كانت تحدثنا عن معاناة المرضى والإهمال الذي يتعرضون له وتجاهل المجتمع لهم. روت لنا عن مرضى شفوا ولكن لا يستطيعون الخروج لأنه لا يوجد لهم مورد رزق وعن آخرين أودعهم ذويهم في المستشفى ثم نسوهم. كانت هذه أول زيارة أقوم بها وإن شاء الله لن تكون الأخيرة.

مباني المستشفى مهملة وكئيبة. طلاء الجدران متآكل، بعض النوافذ زجاجها مكسور، الشبابيك متهالكة، السباكة سيئة، الأسرة والمراتب قديمة وغير مريحة. عندما مررت بجوار أحد المباني شممت رائحة كريهة وعندما سألت ما هذا قيل لي أن بعض المرضى يعانون من التبول اللإرادي وأن هناك نقص في الحفاضات، لهذا تتبول المريضات على أنفسهن ويظلن هكذا لفترة طويلة وهذا سبب الرائحة الكريهة.
إنقسمنا فريقين، فريق ذهب لتقديم الإفطار للنزلاء الصائمون من الرجال وظللت أنا مع الفريق المعني بالنزيلات. افترشنا الأرض بجوار برجلة متهالكة ليس بها مقعد سليم. كان هناك عدد كبير من النساء المسنات ولفت نظري حضور إحداهن وبحوزتها طعامها الخاص (عصير وكيس به عنب وعلبة صغيرة لم أدر ما بها). واحدة أخرى – في السبعينات من العمر تقريباً – أول ما رأتني سألتني إذا كنا سنوزع عليهن صابون. الإهمال في نظافتهم الشخصية كان واضحاً للعين ومؤذياً للأنف. كثيرات كانت أسنانهن إما متساقطة أو شديدة الإصفرار.
بعضهن أبدين سعادتهن برؤيتنا. واحدة أرتني رسوماتها: كراسة كتبت في كل صفحة اسم من أسماء الله الحسنى وأوراق رسمت عليها وجوه نساء. أرتني رسم لفتاه وقالت لي أنظري لاتجاه عينيها هي تنظر لنفسها من الداخل، ثم أرتني رسماً آخر على كرتونة واشتكت أنه لم يعد لديها أوراق لترسم عليها. قلت لها يمكنك أن ترسمي في المساحات البيضاء في كراسة أسماء الله، فأخرجت ألوانها على الفور وبدأت ترسم. اختارت في الأول قلم ألوان أزرق ولكنه كان فارغاً، فاختارت قلم أصفر ولكنه كان أيضاً فارغاً ثم قلم أسود حالفها الحظ ولم يكن فارغاً. انتبهت هنا وأدركت لماذا كانت معظم رسوماتها باللون الأسود، كنت اعتقد أن ذلك عائد لبُعد نفسي ولكن أدركت حينها أنه ببساطة القلم الوحيد الذي لم يكن فارغاً. إن شاء الله المرة القادمة سأحضر لها ورق وألوان.
بعد الإفطار، قمنا بتوزيع مسحوق غسيل ملابس على بعض النزيلات لأنه لم يكن معنا ما يكفي لهن جميعاً وعرفت أنهن مسئولات عن تنظيف ملابسهن. أعطينهن أيضاً صابون حمام. ثم بدأت المعركة الكبرى: معركة الشاي والسكر.
كان من ضمن التبرعات عدداً لا بأس به من أكياس الشاي والسكر ولكنه لا يكفي الجميع وعرفت من صديقتي أنهن يعشقن الشاي ولكن كل واحدة مسئولة عن نفسها. كنت أتوقع أن يكون هناك مطبخ مشترك يمكن للنزيلات أن يتقاسمن فيه الشاي والسكر ولكن فهمت أن الأمر ليس كذلك، فحتى الشاي غير متوفر بكمية كافية وعلى كل نزيلة أن ترعى نفسها. ازدحمن حول صديقتي وهي توزع أكياس الشاي والسكر، والمسكينة تحاول أن تراعي ألا يأخذ أحد أكثر من كيس. وعلى بعد متر من هذا الزحام وقفت إحدى النزيلات إمرأة طاعنة في السن تصرخ وهي تبكي "عاوزة شاي". ذهبت إليها، فنظرت إلى وقالت بأسى: "مش عارفة أجيب شاي". ذهبت إلى صديقتي وأخذت كيس شاي وسكر وأعطيتها إياه. أكملت توزيع الوجبات على العنابر ثم عدت للسيارة أنتظر بقية المجموعة. تركت باب السيارة مفتوحاً وجلست أستريح وأنا أرقب بعض النزيلات وهن يعدن إلى عنبرهن، فإذا بواحدة كانت تسير على مهل تعود مسرعة ناحيتي وتقبلني، قبلتها وأنا مسرورة، فإذا بها تتطلب مني بتوسل: "إديني شاي". كنا قد وزعنا كل أكياس الشاي. نظرت إلى بحزن فقلت لها: "متزعليش المرة الجاية هاجيبلك شاي".
لم آكل أمس سوى متأخراً. أمضيت ساعات عاجزة عن استيعاب قسوة هذه الحياة على نساء مسنات يعانين من مرض لا يسمح لهن الاعتماد على أنفسهن ولم يجدن دولة تتولى مسئوليتهن بأمانة. ثم فتحت الانترنت وبدأت أتصفح الساحات والمواقع التي تتناول الحياة السياسية والحزبية في مصر. قرأت مقالات تتعرض للإختلاف الإيدولوجي والتباين الفكري الذي تعج الساحة المصرية بضجيجه ولكني لم أستطع أن أسخر من عدم إدراك من يعتبرون أنفسهم قادة الفكر بأولويات مصر الحالية فصورة واقع مستشفى الأمراض العقلية المُر لا تزال حية في ذهني. عن أي تباين فكري واختلافات أيدولوجية يتحدثون في بلد تمتهن فيه كرامة المسن الفاقد الأهلية؟ عندما يكون المرء مسناً ومريضاً في عقله فعلى الدولة أن توفر له رعاية وحياة كريمة، لا خير في مجتمع يبكي فيه المسن من أجل كيس شاي ويلح في طلب صابونة كي يستحم. لا أوجه كلامي للقائمين على الدولة الذين يجب أن يحاسبوا على إهدارهم للكرامة الإنسانية في شتى المناحي ولكني أوجه حديثي للإحزاب المتنافرة والرافضة لمن يخالفها فكرياً. إنكم لن تستطيعوا بلورة أية توجه فكري مصري أصيل وناضج قبل أن تضمنوا كرامة المواطن الذي ترغبون أن يعطيكم صوته في الانتخابات. إنكم يجمعكم هدف واحد مشترك ينبغي عليكم العمل على تحقيقه أولاً إذا ما أردتم أن تكون هناك حياة حزبية حقه وأن يكون لكم تواجد فعلي، هدفكم المشترك الذي يجب أن تتجاوزوا اختلافاتكم الفكرية لتعملوا على تحقيقه هو ضمان كرامة الإنسان الذي سينتخبكم. ننتظر منكم أن تعملوا سوياً كي لا يكون في وطننا إمرأة مسنة تبكي من أجل كيس شاي. هذا هو السبيل الوحيد كي يكون لكم وجود حقيقي لا شرفي لزوم الديكور الديمقراطي.

التعليقات