مصر الكبرى

10:49 صباحًا EET

كل شيء يتداعى

 
هل أميركا بحاجة إلى ربيع عربي؟ كان هذا هو السؤال الذي جال بخاطري عندما اتصلت بفرانسيس فوكوياما، الأستاذ في جامعة ستانفورد ومؤلف كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». لقد كان فوكوياما يؤلف كتابا رائعا من جزأين بعنوان «أصول النظام السياسي»، وأزعم أنني أستطيع من كتاباته الأخيرة اكتشاف أن بحثه يقوده إلى طرح سؤال جوهري عن النظام السياسي في أميركا اليوم وهو: هل انتقلت أميركا من الديمقراطية إلى «الفيتوقراطية»، أي من نظام هدفه منع أي أحد داخله من التمتع بسلطة كبيرة، إلى نظام لا يستطيع أحد داخله التمتع بالسلطة الكافية لاتخاذ أي قرار مهم على الإطلاق؟

ويقول فوكوياما: «هناك أزمة سلطة، ونحن غير مستعدين للتفكير في ذلك من هذا المنظور. دائما ما يفكر الأميركيون في تقييد نطاق سلطة الحكومة، حين يفكرون في مشكلة الحكومة». ويعود هذا إلى جذور الثقافة السياسية، فقد تم وضع سيادة القانون والتداول الديمقراطي المنتظم للسلطة وحماية حقوق الإنسان كعراقيل تحول دون تكوين حكومة مركزية تتمتع بسلطة مبالغ فيها. وأضاف فوكوياما: «لكننا ننسى أن الحكومة تشكَّل حتى تكون فاعلة وقادرة على اتخاذ القرارات».
ويغيب هذا الأمر على المستوى الفيدرالي. ويفترض في النظام، الذي يتضمن قدرا كبيرا من الرقابة والتوازنات مثل نظامنا، بل ويجدر به، أن يتضمن الحد الأدنى من التعاون بين الحزبين حول القضايا الكبرى رغم الاختلافات الفكرية بينهما. مع الأسف، اجتمعت عدة عوامل، منذ نهاية الحرب الباردة، التي كانت بمثابة قوة هائلة تفرض التوصل إلى حل وسط بين الأطراف، لإحداث شلل تام في نظامنا. وأضفنا المزيد من الرقابة والتوازنات بالنسبة إلى المبتدئين بحيث تزداد عملية صناعة القرار صعوبة مثل الاعتراض في مجلس الشيوخ الذي يستغل لمنع أي تعيينات من السلطة التنفيذية أو قاعدة المماطلة في مجلس الشيوخ التي تتطلب تصويتا بأغلبية 60 صوتا بدلا من 51 صوتا لتمرير أي تشريع مهم. باتت الأحقاد تسيطر على خلافاتنا السياسية أكثر من أي وقت مضى. قال لي ذات مرة راسل فينغولد، عضو مجلس الشيوخ السابق عن الحزب الديمقراطي، إنه في ظل استمرار معدل الاستقطاب، سيطالب أتباع الحزبين قريبا بمنتجات استهلاكية تعبر عن سياسة كل حزب. وأوضح قائلا: «ستنتهي بنا الحال إلى إنتاج معجون أسنان ديمقراطي وآخر جمهوري».
يكشف الإنترنت وعالم المدونات وتغطية محطة «سي سبان» وقائع جلسات مجلسي الشيوخ والنواب، أي خفايا خاصة بالمشرعين، مما يحد من احتمال إبرام صفقات سرية بينهم ويجعل الاستعراض أمام العامة فعلا معتادا باستمرار. أخيرا فإن التوسع الكبير في الحكومة الفيدرالية والاهتمام المتزايد بالمال في عالم السياسة، زاد من عدد جماعات الضغط التي تجمعها المصالح المشتركة وزادت قدرتها على التأثير وعرقلة صناعة القرار.
تبدو أميركا اليوم مثل مجتمع كتب عنه خبير العلوم السياسية مانكور أولسون في كتابه الصادر عام 1982 «صعود وانهيار الأمم».. وحذر مانكور في كتابه من زيادة عدد جماعات الضغط التي تركز على مصالحها في الدولة، والتي تتمتع بميزة فطرية عن الأغلبية العظمى التي تركز على مصالح الدولة ككل، حيث تؤدي إلى امتصاص أنفاس الحياة من النظام السياسي مثل الأخطبوط إلا إذا احتشدت الأغلبية ضدها.
ويعبر فوكوياما عن هذا بطريقة أخرى حين يقول إن عدد الأقليات المنتظمة في جماعات تركز على مصالحها ومواردها وبازدياد، مثلما تزداد قدرتها على الحشد عن أي وقت مضى، في الوقت الذي تضعف فيه كل آليات تنفيذ إرادة الأغلبية عن أي وقت مضى. ويؤدي هذا إما إلى شلل تشريعي، أو عدم الوصول إلى المستوى المثالي ورقع من الموائمات مثل لعبة «روبي غولدبيرغ إيسك» التي غالبا ما تحدث بعد أزمات لم تلق الاهتمام الكافي.. هذه هي «فيتوقراطيتنا».
ويشير إدوارد لوس، كاتب عمود في «فايننشيال تايمز» ومؤلف كتاب «أوان التفكير: أميركا في عصر الاضمحلال» Time to Start Thinking: America in the Age of Descent، إلى أنه إذا كنت تصدق الوهم بأن نجاح أميركا الاقتصادي قائم على حكومة ليست لها صلاحيات كاملة، فالأزمات والنظام الفيتوقراطي يناسبك تماما، لكن إذا كنت تدرك تاريخ أميركا، فستعرف حتما أن الحكومة اضطلعت بدور محوري وحيوي في تحقيق النمو من خلال الحفاظ على سيادة القانون، ونشر القواعد التنظيمية التي تشجع المخاطرة وتحول دون التهور، وتعليم القوى العاملة، وتشييد بنية تحتية، وتمويل البحث العلمي، مما يجعل الفيتوقراطية نظاما خطيرا للغاية، حيث يقوض سر نجاحنا الذي يكمن في الشراكة المتوازنة بين القطاعين العام والخاص.
ويقول فوكوياما: «لسنا بحاجة إلى قيادة قوية للخلاص من حالة العجز الحالي، بل إلى تغيرات في القوانين المؤسسية». من ضمن ذلك، اعتراض أعضاء مجلس الشيوخ أو المماطلة التقليدية في إصدار التشريعات وتولي لجنة أصغر من المشرعين، مثل تلك المسؤولة عن إغلاق القواعد العسكرية، ووضع الميزانية، يشارك فيها أفراد من هيئة مستقلة متخصصة مثل مكتب الميزانية في الكونغرس لتكون بعيدة عن أي ضغوط تمارسها جماعات المصالح، وطرحها أمام الكونغرس للتصويت مرة واحدة غير قابلة للمراجعة بالقيام والجلوس.
أعلم أنك تعتقد أن هذا لن يحدث أبدا، لكن هل تعلم ماذا أعتقد أنا؟ أعتقد أننا لن نستعيد عظمتنا مرة أخرى، أيًّا كان الرئيس المنتخب، وأننا لن نستطيع أن نكون دولة كبرى ما دمنا تحت حكم النظام الفيتوقراطي بدلا من النظام الديمقراطي. فنظامنا السياسي المشوه، الذي أصبح الكونغرس فيه منتدى للرشى المقننة، يعرقلنا حقا.

التعليقات