كتاب 11
مأمون فندي يكتب: من طيبة إلى طيبة
طيبة الأولى (بكسر الطاء) هي Thebes مسقط رأسي، وطيبة الثانية هي سيدة البلدان ونقطة البدء حيث مرقده وحضرته صلى الله عليه وسلم، وللعنوان طبقات بعضها فوق بعض، تتجلى معانيه لاحقاً، ولكن السؤال الأوليّ هو: هل هناك ما لم يخطه قلم من قبل من أهل البرهان وأهل العرفان وأهل العلامات والإشارات عن مولد النور الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، كي تبقى مساحة لمثلي لتناول هذا الحدث الكوني كي أكتب عنه اليوم؟ رغم عظمة ما كتب في مديحه، صلى الله عليه وسلم، من البوصيري وبردته، إلى شوقي وما قبلهما، وما بعد، ظني أن الأمر ممكن، فالحديث عن سيرته وصفاته في علوم الظاهر والباطن متعدد بعدد أنفاس زوّاره الذين جاءوا إليه والذين لم يأتوا، محب من الزوار عوقه ذنب، أو أعاقته فيزيائياً ظروف تمنع من الحضور الجسدي، ولكن الأرواح تطوف بعدد محبيه:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها
تقبّل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فكثيرون أرسلوا أرواحهم للزيارة في هذه الأيام المباركة؛ منهم ما نعرف ومنهم من لا نعرف. في هذا المقال سأدلف في فيض المولد بمنهجية ما يسميه علماء الأنثروبولوجيا بـ«المشاهد المشارك (participant observer)»، وتلك منهجية لا تفترض البعد عن الحدث بغية الموضوعية، بل تعترف بأن المساحة بين المشاهِد (بكسر الهاء) والمشاهَد (بفتحها)، لن تكون موجودة أبداً، كما علمتنا «فيزياء الكوانتم»، إذاً لا يمكن أن يوجد الشيء بموضوعية إلا في حالة حذف المشاهِد، بكسر الهاء.
دوماً كان مولده حاضراً في طفولتي، وكانت البوابات هي مدخلي، وكان أهلنا منذ البدء ممن زاروا وحضروا يتحدثون عن باب السلام وباب جبريل وباب للجنائز تطأطأ فيه الرؤوس، وكذلك باب الرحمة، وبوابات ومسارات أخرى، وكان من بينهم مَن كنا نظنهم من أهل الخطوة أو ما يمكن تسميتهم بالعابرين روحياً، أناس تطوى لهم البيد طياً، يحدثوننا عن الداخلين والخارجين من الحضرة من بوابات مختلفة وكأن هناك شيئاً أشبه بما نراه اليوم من التعليق الفوري على الأحداث الحية في التلفزة، هذا أمر أدركته فيما بعد، ولكن في ذلك الوقت، وفي سن العاشرة تقريباً، لم يكن قد وصل التلفزيون إلى بلادنا، ولم يدُر بخلدي أن يأتي يوم تنقل فيه الأحداث حية. يوم أن جاءنا الراديو كان عواجيز القرية يقولون: «ستقوم القيامة أما الحديد يتكلم»، وتكلم الحديد وكنا في انتظار القيامة. سمعت هذا الرجل وهو يصف لنا دخول أقاربنا من باب الرحمة، وكان بيننا وكأنه يصف الحدث (live)، وكنا نتحلق حوله، وعند عودة الحجاج كانوا يصفون لنا شيئاً أقرب إلى ما سمعناه في تعليق صاحبنا، بل زاد أحد الحجاج ذات مرة قائلاً إنه شاهده بينهم وهم في حالة السلام على النبي صلى الله وسلم، وقد رفع يده بين أيديهم وهي يد يعرفونها بعلامات لا لبس فيها؛ إذ كان أحد أصابعه مقطوعاً. وكان الرجل هنا وهناك في الوقت ذاته شيئاً أقرب إلى فكرة «البايلوكيشين» المعروفة في علم «الباراسيكولوجي». وتلك قصة تروى ولها سياقات أوسع وأعمق، ولكن ما يهمني هنا هو أنني كنت من المغرمين بباب الرحمة، ولا أعرف لماذا، وعرفت فيما بعد أنه أيضاً باب النبي الذي دعا فيه لهطول المطر، ودعا أيضاً كي يوقفه عندما زاد على حده، وأجيب الدعاء في الحالتين، وكنت أيضاً ودوماً أرى الرحمة كغيمة كبرى كتلك التي ظللته صلى الله عليه وسلم في المكان المعروف الآن بمسجد الغمامة الذي تراه وأنت تمشي من الحرم النبوي في طريقك إلى قباء. وهو مسجد ذو عمارة تركية تشبه مساجد إسطنبول وأعمال المعماري سنان. مسجد يزيد من تنوع العمارة ويضفي عليه جمالاً، وما المسجد هنا هو قصدي وإنما الغمامة ذاتها، وكنت أتصور أن الغمامة هي باب الرحمة، وكنت أرى العلم اللدني هو قطرات من غيمة الرحمة، «آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً»، في قصة الخضر وموسى، ولكلٍ خضره، ومعلمه وهاديه ومرشده. ومنها كان مساري في العلم بتعدد أشكاله، وكذلك مساري في رحلة التواضع المعرفي، وهذا مقام أقرب إلى مقام الصمت عند مولانا النفري في مواقفه ومشاهداته ومخاطباته. وأن الرؤيا رزق، ولما تجلى ربك للجبل، أوغل موسى بعد المخاطبة فطلب الرؤية والتجلي، ولم يتجلَ ربك على موسى وتجلى على مخلوق آخر، تجلى للجبل. فلا تظن أنك أفضل من غيرك من المخلوقات، فكل شيء خلق بقدر ومقدار. وجبال المدينة من أصغرها كجبل الرماة إلى جبل أحد في خلفيته بكل عظمته وجلاله، توحي لك وكأن الأماكن تتحدث إليك، ولها أصوات، وأدّعي أن لها رائحة.
المهم في كل هذا، وفي هذا المولد وجدتني عند باب الرحمة وكنت في حالة الزيارة، والحقيقة هي أنني كنت قادماً من طيبة هذه المرة إلى طيبة عبر وقفات ومشاهدات أخرى، جئت من طيبة إلى لندن، ثم مررت بالكويت وتوقفت في الرياض، وشتان ما بين الرياض الجمع والروضة المفرد، وفي كل الأحوال كنت في حالة «اخلع نعليك» أي أن النية قد سبقت الرحلة، من أجل الدخول من باب الرحمة منذ شهور مضت، وظني أن حالة «اخلع نعليك» هي ضرورة أولية للولوج من باب الرحمة، أو أي من بوابات الحرم النبوي؛ تجهيزاً وإعداداً، كما يكون الوضوء من الصلاة. إذاً لم يكن دخولي من باب الرحمة للسلام عليه، صلى الله عليه وسلم، يوم وصولي منذ أسبوع مضى أو ما قبله، بل كان منذ شهور مضت، وربما حفرت كنقش مقدس منذ زمن أطول حين علمنا أصحاب النقل الحي والمباشر من قريتنا وأنا في العاشرة، من باب الرحمة أحياناً ومن باب جبريل وباب السلام أحياناً أخرى.
رأيت الناس ليلة المولد النبوي يتدفقون من عند مسجد قباء حتى الحرم، شيء أشبه بنهر «الغانج» الذي يغتسل فيه الهندوس، ولكنه نهر ليس من الماء، بل من البشر، وجوه مغايرة ومختلفة؛ منها الآسيوي بمساحات اختلافه بين الماليزيين والصينيين والبنغال وشبه القارة الهندية، وكلها وجوه متمايزة. ولم تلفتني الوجوه فقط بل الأيادي التي تتضرع بألوانها المختلفة وطول أصابعها أو قصرها، مادة لرسام عبقري سواء أكان على مستوى رسم الوجوه أو الأيادي أو الأرجل الحافية عند جامعه وحرمه، فإذا كان قباء مسجداً، فالحرم النبوي كان جامعاً، وشتان ما بين الجامع والمسجد، فالجامع فيه جموع وشمول مما ترى ولا ترى، ولذلك تفصيل آخر.
كان المكان مسكوناً بهمهمات وأصوات لا تتبينها، بعضها من حروف القرآن، وبعضها دعوات أرواح منكسرة، وظني أن تلك الذبذبات التي تشبه رنين شوكة مغناطيسية، والناتجة عن الابتهال الصادق لمطالب حقيقية لبشر في حالة التجلي والخوف والرجاء، هي التي تخلق الحالة الروحية للمولد، وهي التي تحدد جاذبية كل بوابة ودعوتها لأصحابها، أو من تلبى طلباتهم عندها. لذلك يقصد كلٌ بوابته يمشي إليها مشي النائم، في حالة الوجد.
هذا المشهد الذي يبدو قدرياً، كل يمشى كما النائم، وكل ميسر لما خلق له، جعلني أفكر في أن خريطة المدينة ليلة المولد لم تكن خريطة جغرافية، بل كانت خطوط العرض والطول فيها هي جغرافيا روحية زمانية لا مكانية، وربما تلك هي خريطة المدينة الحقيقية، مكتوبة من الأزل، رسم سرمدي من اللوح المحفوظ، مخططة من أعلى، وأن الجغرافيا الظاهرية تخفى لمن لا يعلم جغرافيا الروح التي تتجلى فيمن بيّت النية منذ زمن قادماً من بعيد.
وحتى لا نحلق بعيداً لا بد من أجهزة دنيوية يجب ألا نغفلها تسيّر هذا النهر البشري في إطار ما يسميه الدنيويون وأهل الأمن «إدارة الحشود»، وهذا يتطلب جهداً كبيراً، ولكن لا تراه ظاهراً في المدينة، إذ يبدو أنه جاهز في خلفية المشهد، وليس حاضراً في منتصف المسرح حتى لا يفسد الحالة. تحس بالأمان عند الحرم ولا تحس بالأمن بمعنى البوليس أو القوات. يوماً رأيت قطة مجاورة ترضع وليدها الضعيف في حالة طمأنينة عالية، ووقفت أتأمل طمأنينتها والتقطت لها صورة.
كانت رحلتي هذه المرة تدريباً على قراءة الوجوه، والأيدي المرفوعة وتركيزاً أيضاً على الأقدام الحافية. وظني هذا يحتاج لقراءات وزيارات أخرى، وربما من مناظير متعددة.
تركت طيبة ليس إلى طيبة بل إلى لندن، واعداً نفسي بزيارة لغرب الأقصر في آخر الشهر، لتكتمل الرحلة من طيبة إلى طيبة. تركت المولد المكاني، ولكن بقي المولد في رأسي وعقلي وقلبي وكلي. «زدني بفرط الحب فيك تحيراً»، دارت هذه العبارة في رأسي أحياناً بصوت الفلسطينية ريم بنا، أو بصوت المصري ياسين التهامي، أو حتى العراقي كاظم الساهر من مهرجان فاس.
كان مرشدي ومرافقي في تلك الحالة رجلاً من أهل البلاد، وليس منهم. أسمر ذا لحية متناسقة كأنه شيخ طريقة صوفية أو رجل من عالم «الراستافاري» الإثيوبية، روح عالية، أضفت على التجربة الروحية ما يكشف عن أنها لا نهائية، طبقات بعضها فوق بعض، وتلك ملاحظاتي عن حالة الغرق في الفيض النوراني وسط زحام من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وظننت للحظة أن أحداً من أهلي في غرب الأقصر من العابرين روحياً يصف حالتي لمن حوله كما كان يصف صاحبنا المشهد ذاته في طفولتي، أو أن يد صاحبنا كانت بين الحشود ولم أتبينها. أم أنه يوم أن كان يصف باب الرحمة وأنا في العاشرة كان يصف حالتي في انحناءة من الزمن (time bend) أو أنني كنت المشاهَد (بفتح الهاء)، وكنت المشاهِد (بكسرها) في الوقت ذاته، وما ذلك على الله بعزيز.