كتاب 11

03:00 مساءً EET

السر في المصدر!

كنت دائماً ما أندهش من قوة الغرب وتأثيره في فرض الخبر القادم منهم ليصبح الخبر الأول بامتياز في أنحاء العالم كافة وبشكل فوري. وهذا تماماً ما يحدث هذه الأيام في التغطية الإعلامية الهائلة المستمرة دون توقف لخبر وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، وتولي ابنها الملك تشارلز الثالث مقاليد العرش الملكي البريطاني من بعدها. ومع تغطية عالمية غير مسبوقة للخبر بدأ التفاوت في التفاصيل، فالتغطية القادمة من الدول المتأثرة سلباً بالاستعمار البريطاني كانت مختلفة تماماً عن تلك التي جاءت من بريطانيا وحلفائها. حقبة إليزابيث الثانية، والتي امتدت إلى أكثر من سبعة عقود من الزمن، تحولت مع الوقت إلى أهم سلاح في ترسانة القوى الناعمة البريطانية، وجعل من حضورها الأنثوي الرقيق غطاءً ملائماً للحقبة الاستعمارية البريطانية التي كانت مليئة بالمآسي ومثيرة للجدل.
وفي عهدها كانت الوجه الناعم لتحول بريطانيا من دولة استعمارية بامتياز، إلى دولة تترأس تكتلاً سياسياً اقتصادياً «الكومنولث» يجمعها مع الدول التي استعمرتها في السابق، ليتحول شكل العلاقة بين الأطراف المعنية إلى علاقة شراكة للجميع، بعد أن كانت علاقة بين سيد ورقيق في السابق.
ونجحت مع الوقت لأن تحول مؤسسة الملكية البريطانية إلى أحد أهم روافد الاقتصاد البريطاني، وخصوصاً فيما يتعلق بالجانب السياحي منه. وأسهمت في تحسين صورة بريطانيا في أذهان الأجيال الجديدة.
وقد أشار إلى ذلك الكاتب الأميركي فيليب كوتلر أهم خبراء مجال التسويق في العالم في كتابه المهم «تسويق الأمم» بقوله إن الأمم تستخدم في بعض الحالات أدوات غير تقليدية لتسويق سمعتها ومزاياها، فهي أكثر تأثيراً من الطرح المباشر. وهذا تماماً ما نجحت فيه بريطانيا في التوظيف الأمثل للملكة الراحلة بشكل فعّال ومؤثر. مع عدم إغفال حجم المآسي المهمة التي خلّفها الاستعمار البريطاني وإرثه المؤلم، فيما يتعلق بالاحتلال وتجارة الرق والعنصرية ونهب ثروات الدول، وإحداث المشاكل السياسية عبر رسم غير عادل للحدود.
وقيمة المؤسسة الملكية التي رسختها الملكة الراحلة إليزابيث الثانية لا تحسب فقط من الناحية المعنوية، ولكن لها تقديرات مالية أيضاً فمؤسسة براند فاينانس المعروفة بتقديرات وتقييم العلامات التجارية قدرت قيمة المؤسسة الملكية في بريطانيا بـ67 مليار جنيه إسترليني، وأضافت أن المؤسسة الملكية البريطانية تساهم بما لا يقل عن 1.8 مليار جنيه إسترليني سنوياً في الاقتصاد البريطاني، وهذا يحسب للمؤسسة الملكية البريطانية التي حوّلت نفسها إلى آلة علاقات عامة بلا توقف، يتابع الناس حول العالم بلا توقف كافة أخبارها.
وهذا ما كنت أتناوله مع أحد الأصدقاء في جلسة جمعتنا على فنجان قهوة، وكان فيه من المعلقين بحماس على خبر وفاة ملكة بريطانيا، قلت له: هل نحن قادرون على تلقي الخبر والمعلومة من مصادر غير تقليدية، وأن نتعامل معها بجدية وموضوعية؟ نظر إلي متعجباً وقال لي هه؟ لم أفهم ماذا تقصد! قلت له: سأعطيك مثالا، هل تقبل رأي جورج طرابيشي وهو المسيحي السوري المتعمق في مسائل الفقه والسيرة والحديث؟ هل تقبل رأي وائل الحلاق ابن الناصرة المسيحي الفلسطيني الذي أصبح من أهم المرجعيات في الغرب في علوم الفقه والشريعة، من خلال منبره في جامعة كولومبيا الأميركية العريقة؟ هل تقبل آراءهما في مسألة تخص الدين الإسلامي؟
أعتقد أن لدينا مشكلة في قبول الرأي والرأي الآخر، أو على الأقل البحث الأمثل عن المعلومة الكاملة، لتكوين مصدر متكامل لأي خبر، لأننا ما زلنا أسرى للصورة النمطية التي يتم ترويجها لنا. الخبر هو بداية الفرصة لتكوين العلم والبناء عليه ليتحول إلى معرفة كاملة.
ولا داعي لأن أذكرك بالبروفيسور الجامعي صديقك الذي يقول بكل جرأة وعنجهية، إنه لا يمكن أن يدرّس لطلبته كتب ستيفن هوكنغ لأنه ملحد.
قيل قديماً إن التاريخ يكتبه المنتصرون، ومن الممكن إضافة عليها اليوم وينقحه المحترفون، ولكن تبقى المسؤولية على المتلقي في البحث عن مصادر للخبر ومن ثم المعلومة، لتكوين التصور الكامل للحدث وإلا بقي الخبر أسير صورة نمطية بحتة.

التعليقات