مصر الكبرى
د. عادل عامر يكتب … الإجماع السكوتي ليس حجة
فلما كانت الأمة الإسلامية اليوم تعاني من كثرة النوازل المتعددة والوقائع المتنوعة ، وذلك بسبب واقعها المتشابك والمتداخل صار البحث عن الأحكام الشرعية المتعلقة بتلك النوازل والوقائع وتوضيح كيفية التعامل معها وفق الضوابط الشرعية أمرا لازماً وضرورياً لامناص منه ولا محيد عنه ،
إذ إن التملص والتفلت من مهمة إيضاح أحكامها ومحاولة غض الطرف عنها تحت أية دعوى يفضي بلا شك إلى إيقاع الناس في دوامة الحيرة التي لا مخرج لهم منها ، ويسوقهم إلى اضطراب لانهاية له ولا غاية ، بل ربما أدى ذلك – وكثيراً ما يقع – إلى إنتاج وإظهار نوازل جديدة وقضايا غريبة قد تكون أشد تعقيداً وأكثر استفحالاً من سابقتها وهكذا دواليك .
هذا وقد يكون ظهور الطوائف الممتنعة المنافحة عن الحكام المرتدين من أعظم النوازل المعاصرة التي احتاجت من أهل العلم إلى اجتهاد صحيح منضبط يُظهر كثيراً من الأحكام الشرعية المرتبطة بها ، لا سيما وأنها وثيقة الصلة بحياة المسلمين وتحركاتهم اليومية مما يؤكد حتمية بيان أحكامها بيانا شافيا كافيا ، ويلح في إخراجها للناس بوضوح وجلاءٍ لا يبقى معهما غبش ولا لبس ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.حجية الإجماع السكوتي ثم قد يكون القول من الجميع ، ولا شك ، وقد يكون من بعضهم وسكوت الباقين بعد انتشاره من غير أن يظهر معهم اعتراف أو رضا به ، وهذا هو الإجماع السكوتي ، وفيه ثلاثة عشر مذهبا : أحدها : أنه ليس بإجماع ولا حجة ، وحكي عن داود وابنه ، وإليه ذهب الشريف المرتضى ، وصححه صاحب المصادر " ، إن الشافعي نص عليه في الجديد . وقال إمام الحرمين : إنه ظاهر مذهبه ، ولهذا قال : ولا ينسب إلى ساكت قول . قال : وهي من عباراته الرشيقة . قلت : ومعناه لا ينسب إلى ساكت تعيين قول ; لأن السكوت يحتمل التصويب ، أو لتسويغ الاجتهاد أو الشك ، فلا ينسب إليه تعيين وإنما قيل بهذا القول ; لأن الخلاف معدوم ، والقول في أهل الحجة شائع . انتهى . وكذا قال في شرح الرسالة " : عمل الصحابي منتشر في الصحابة لا ينكره منكر حتى انقرض العصر ، فهو حجة لا يجوز خلافه ، لا من جهة الاتفاق ، ولكن لعدم الخلاف من أهل الحجة . واختاره الآمدي ، ووافقه ابن الحاجب في الكبير " . وردد في الصغير " اختياره بين أن يكون إجماعا أو حجة . وقيد الآمدي هذا في موضع آخر بما قبل انقراض أهل العصر ، فأما بعده ، فإنه يكون إجماعا . [ ص: 462 ] وذكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، والقاضي أبو الطيب : أن معتمد القائلين بهذا من أصحابنا قول الشافعي : لا ينسب إلى ساكت قول ، وليعلم أن المراد بالخلاف هنا وأنه ليس بإجماع ، أي قطعي ، وبذلك صرح ابن برهان عن الصيرفي ، وكذا ابن الحاجب ، وإلا فمعلوم أن الإجماع حجة ، فكيف ينقسم الشيء إلى نفسه وقد سبق في أول الباب حكاية خلاف في أن لفظ الإجماع هل يطلق على القطعي والظني ، أو يختص بالقطعي ؟ والقائلون بأن السكوتي حجة مثيرة للظن اختلفوا في أنه قطعي أم ظني ؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق ، وأبو منصور البغدادي ، والبندنيجي : إنه مقطوع به ، أي أن حكم الله تعالى ما ظنناه ، لا القطع بحصول الإجماع ، وقال آخرون : بل ظني . تنبيه [ لم يقل أحد إنه إجماع لا حجة ] قال الهندي : لم يصر أحد إلى عكس هذا ، أعني إلى أنه إجماع ، لا حجة ويمكن القول به ، كالإجماع المروي بالآحاد عند من لم يقل بحجيته . ( أن الحكم بكفر أنصار الطواغيت الممتنعين على التعيين قد ثبت بإجماع الصحابة إجماعاً قطعياً ليس فيه منازع ، ومثل هذا الإجماع يكفر مخالفه ، فمن خالف في هذا الحكم فقد كفر واتبع غير سبيل المؤمنين وفارق جماعتهم ) ، وهذا أمر مسلًّم به عند جميع الناس ، ولا يحتاج إلى مثل هذه الأدلة الفرعية ، وإذ ذلك كذلك ، فإن مسألة حكم أنصار الحكام المرتدين المعاصرين ، وهل هم كفار على التعيين أم لا ؟ ، تبقى في دائرة الاجتهاد الذي تختلف فيه الأنظار شريطة أن تكون مبنية على أدلة صحيحة واستدلال قويم ، فالقدر المتفق عليه في حقهم ، أو الذي ينبغي أن يتفق عليه ولا يختلف فيه ابتداءً ، هو أن هؤلاء المناصرين للحكام المرتدين قد تلبسوا بمكفرات متعددة ، وامتنعوا عليها ، كمظاهرة الكفار على المسلمين ، واستحلال دماء وأموال المعصومين ، وحمايتهم لقوانين ودساتير الكافرين ، وغير ذلك مما هو معلوم من حالهم ، فبعد هذا القدر المتفق عليه في حقهم ، مَن تبين له أن طائفة من هذه الطوائف الممتنعة في مكان من الأمكنة ، أو زمان من الأزمنة ، قد شاع بين أفرادها شيء من موانع التكفير المعتبرة ، فلا يجوز له والحالة هذه الإقدام على تكفير أعيانهم وذلك لوجود المانع في حقهم ، بل يبقى مستمسكاً بأصل إسلامهم إلا من عُلِمَ حاله منهم ، كما أن من علم أن بعض هذه الطوائف لم يعد عندها شيء من الموانع المعتبرة لا يحل له أن يتوقف عن تكفير أعيانها ، والشهادة على القتلى بالنار ، ليكون حكمه عليهم شاملاً لأحكام الدنيا والآخرة ، وكما أن إخراج المسلم من دائرة الإسلام بمجرد الظنون والأوهام ليس أمراً هيناً ، فكذلك لا تجوز الشهادة بالإسلام لمن علم خروجه منه بيقين ، فمدار أمر تكفير أعيان هذه الطوائف من عدمه متوقف على العلم بوجود موانع التكفير في حقهم ، وهذا المجال هو الذي تختلف فيه الأنظار وتتعدد الاجتهادات ، ولا يخفى أن هذا لا علاقة له من قريب أو بعيد بالبحث والتنقيب عن اعتقاد أفراد الطائفة ، أو التفتيش عن ما انطوت عليه قلوبهم ، بحيث ينظر هل يرتكبون تلك الأفعال المكفرة استحلالاً أم لا ؟ ، وبهذا يظهر أن هذه القضية الاجتهادية أدنى من أن تعقد عليها ألوية الاختلاف ، ويشمر فيها عن ساعد التنازع والشقاق ، كيف والطوائف الممتنعة على أمور مكفرة لا زالت تظهر بين الحين والآخر منذ زمن بعيد ، ولا زال العلماء أيضا يختلفون في تكفيرها ، ولم يَدَّعِ أحد منهم أن في المسألة إجماعاً قطعياً ، يُقْطع معه البحث والنظر ، ويُلقي بمخالفه في دائرة الكفر ، ولم يطرأ جديد حتى يكون إجماع الصحابة المدعى خاصاً بأنصار الحكام المرتدين ، ومقصوراً عليهم ، بحيث يُستَثْنَون من هذا الاختلاف