كتاب 11
في معنى الاحتلال والحرية
كشفت الحرب على غزة أن الفلسطينيين شعب من الأحرار، وأنهم ليسوا محتلين فكرياً وذهنياً، فقط أرضهم محتلة، أما الإسرائيليون فكانوا هم الشعب المحتل، شعب أفراده محتلون من الداخل بتاريخ من الكراهية الناتجة عن توحد الضحية بالجلاد في تجربتهم الفريدة مع النازية، لذلك هم مسكونون بالكراهية والعنصرية البغيضة تجاه الشعب الفلسطيني، إذ لا يرى الإسرائيليون إلا مأساتهم في المحرقة، يذكروننا بها كل يوم وهم في ذات اللحظة يقتلون الأطفال والنساء والبيوت بقنابلهم وصواريخهم في غزة.
الفلسطيني على العكس من ذلك تماماً هو إنسان فقط أرضه محتلة، ولكنه نفسٌ حرة من الداخل. واحتلال النفس لو تعلمون أشد قسوة، ففيه تشويه للطبيعة السوية للبشر وإحساس الإنسان بمفاهيم الظلم والعدل.
في معظم التجارب الكلونيالية والاستعمارية كان الأساس دوماً احتلال العقل والنفس، فتجارب الاستعمار الفرنسي في أفريقيا كانت تبدأ بفرشاة الأسنان وتعويد المحتل على ممارسات يومية تصبح تدريجياً روتيناً وأمراً وسلوكاً معتاداً. عملية التعود هذه على الممارسات واستقبال الأفكار الاستعمارية تجعل الفرد مستعمراً من الداخل، وبهذا تنتهي فكرة مقاومته لما هو معتاد.
في تجربة احتلال بريطانيا للسودان أيضاً استخدم البريطانيون جنوداً من مصر لحكم وإدارة السودان، وكان في ذلك التقارب بين قوة الاحتلال والمحكومين ديناً وثقافة، خلطٌ جعل من الصعب على المحتل فهم طبيعة الاحتلال.
الإنسان الفلسطيني واستمراره في المقاومة في الداخل الفلسطيني وفي الأرض المحتلة والشتات، يثبت كل يوم أن عملية احتلال العقل واستعماره، والذي حاولت إسرائيل تجريبها لمدة تزيد على سبعين عاماً قد فشلت، كما أن مقولة النسيان التي تأتي مع طول الزمن لم تجد تربة تنبت فيها لا في الأرض ولا في النفس الفلسطينية؛ فقد سلم الفلسطينيون حكاياتهم عن الأرض والعرض لأبنائهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، وقد تجلى ذلك بوضوح في خطاب الفلسطينيين ممن هم دون الثلاثين من العمر، والذي شهدناه من خلال الحرب الإعلامية في الفضاءات الإلكترونية فيما عرف بالعواصف الإلكترونية.
كان خطاب الشباب الفلسطيني على «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب» و«كلوبهاوس» خطاباً عقلانياً متماسكاً ومبهراً.
تخلَّى الشباب الفلسطيني عن طرح قضية فلسطين كقضية إنسانية (humanitarian) وتم طرحها كقضية قانونية وحقوقية، قضية محتل غاصب يضرب شعباً أعزل تحت الاحتلال بآخر ما توصلت إليه البشرية من أسلحة دمار فتاكة. احتلال ومحتل، وسياسات عنصرية مرجعيتها تجربة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
الغرب يفهم هذه المرجعيات سواء أكانت الاستعمار وتفكيكه في تجارب بريطانيا وفرنسا، والفصل العنصري الذي نجح الغرب ومعه بقية العالم في القضاء عليه في جنوب أفريقيا.
فكك الشباب الفلسطيني مقولة إن المقاومة كلها «حماس» وإن «حماس» «منظمة إرهابية»، وقدم الفلسطينيون فكرة أن الاحتلال لم يكن جميلاً قبل ظهور «حماس» في آخر ثمانينات القرن الماضي، بل كان احتلالاً بشعاً قبل ظهور «حماس»، كما هي الحال بعد ظهورها. إذن «حماس» ليست القضية، ولكن الاحتلال هو القضية، هذا على مستوى محور الزمان، أما على مستوى محور المكان فأرض فلسطين التي لا توجد بها «حماس» في الضفة أو حتى في الداخل الإسرائيلي تعاني أبشع أنواع التفرقة العنصرية، «حماس» نتيجة وليست سبباً. هذا مجرد مثال.
الفكرة الجوهرية هنا هي أن احتلال الأرض مقدور عليه، من خلال تبني استراتيجيات مقاومة مختلفة، أما الأمر الصعب فهو احتلال العقل، السجن العقلي أشد وطأة على النفس من السجن الفيزيائي، والاحتلال المباشر المتمثل في السيطرة على الأرض أقل خطراً على الإنسان من الاحتلال غير المباشر واستعمار العقل.
للاحتلال الداخلي أبعاد ودلالات أوسع لا يتسع لها المقال، ولكن جوهر القول هو أن الإسرائيلي هو من يحتاج إلى التحرر من أمراضه النفسية، وذهنية الجلاد الذي كان ضحية يوماً، ولم يتعلم شيئاً يقربه من الإنسانية والطبيعة السوية للبشر. احتلال العقل أخطر بكثير من احتلال الأرض، وذلك هو لبُّ الحديث وأساسه.