كتاب 11
سقف الخطاب السياسي
رفع ولي العهد السعودي سقف الخطاب السياسي في المنطقة، مما قد يصعّب الأمر على بعض القادة أن يقولوا شيئاً لشعوبهم أقل مما يشبه خطاب حالة الاتحاد الأميركية الذي يعرض فيه الرئيس الأميركي كل عام أهم إنجازات العام والتحديات المتبقية لديه. وهذا ما فعله الأمير محمد بن سلمان بالتحديد من حيث عرض شامل لـ«رؤية 2030» والأمور التي تحققت منها والتي لم تتحقق بعد.
مسار الحديث عن مقابلة الأمير محمد بن سلمان المتلفزة يكمن في المشي على الخط الفاصل بين صرامة التقييم الجاد والانزلاق إلى حالة المديح الفج، فحديثه يستحق التوقف عنده دونما حاجة إلى تلك المادة التي جعلت من التعليق على أحاديث القادة أمراً محل شك وريبة.
استوقفني في موضوع رفع سقف السياسة في المنطقة، والذي أحاول التركيز عليه هنا، حجم التفويض (delegation of power) الذي منحه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، لولي عهده خصوصاً الشق التنفيذي لـ«رؤية 2030»، ذلك النوع من التفويض والثقة السياسية التي أتمنى أن تسود في منطقتنا كلها، وعلى مستويات عدة حتى تصل المنطقة إلى نوع جديد من الإدارة العامة للسياسة والاقتصاد والتي تأخذها خطوة إلى الأمام. هذا النوع من التفويض السياسي من وجهة نظري هو الذي حرَّك بلداً مثل المملكة العربية السعودية كان كغيره من البلدان المحيطة يعاني من الانسداد، ونقل هذه الدولة نقلة نوعية إلى الأمام لما يساوي خمسين عاماً خلال خمس سنوات، هذه النقلة النوعية التي كان يظنها الباحثون في الشأن السعودي أمراً غير ممكن.
حديث الأمير مع المذيع السعودي، المتميز والخالي من الادّعاء، جاء على غير عادة إعلاميّي منطقتنا، وإلمام ولي العهد بالأرقام بهذه الطريقة يوحي بإعداد شديد المهنية، وفوق كل هذا طريقة العرض المقنعة، والتي تكون في الغالب كعب أخيل من حيث المصداقية عند بعض قادة الإقليم. جاء حديث ولي العهد مقنعاً حتى لمن يخالفونه الرأي والرؤية، وهذا مستوى آخر في رفع سقف تحديات الخطاب السياسي في المنطقة، ومدى قدرته على تجاوز حاجز الخطابة إلى حالة التصديق والإقناع، في منطقة يغلب عليها انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم.
إن النموذج الذي يقدمه ولي العهد السعودي في هذا السياق جدير بالإشادة، ويستحق أن يكون نموذجاً يُحتذى. وهذا مدعاة للانبهار بمثل هذه النوعية من القيادة في منطقتنا ومدعاة لمزيد من التفاؤل الذي أصبح معدناً نفيساً شديد الندرة في منطقة الشرق الأوسط.
حديث الأمير غطّى ثلاثة مجالات مهمة، هي محركات الدفع الرئيسية في النهضة السعودية الحديثة: الأول هو مجال الآيديولوجيا الحاكمة للرؤية والمتمثلة في فتح مجال التأويل بما يسمح لقاطرة الدولة أن تجر خلفها مجتمعاً كان متردداً أو كانت كوابحه الدينية والثقافية تحوِّله من مجتمع شاب إلى مجتمع معطّل، وبفتح هذا المجال بعثت رؤية الملك سلمان في المجتمع روح الحركة. المجال الثاني هو مجال الاحتكام إلى الإنجاز كمعيار يمثل نوعاً من العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع وبين القائد وشعبه، إذ عرض الأمير وبالأرقام الإنجازات التي تم الوصول إليها، والإنجازات المتوقعة في قضايا ملحّة مثل النمو الاقتصادي وقضايا الإسكان والتعليم والصحة. أما المجال الثالث فهو إداري يعتمد على الكفاءة لا المكافأة. وفي هذا المجال اعترف ولى العهد بأنه كان في الدولة وزراء لا يصلحون مديرين لشركات صغيرة واستطاع الاستغناء عنهم، وهذه طريقة جديدة في الحكم، فالاستغناء عن الوزراء أو اختيارهم بناءً على الكفاءة لا المكافأة هو نوع جديد من الإدارة في منطقتنا. وركز الأمير على ما سماه «الشغف» عند الوزير بمهمته، وليس الشغف بالمنصب على طريقة «عبده مشتاق» المصرية والتي يرغب فيها الوزير في المنصب لا في المهمة. وأتمنى أن يستطيع نموذج الإدارة السعودي الجديد أن يكون مُعدياً لبقية الأنظمة.
يُصدر النموذج السعودي اليوم رؤية تنويرية للعالمين العربي والإسلامي، لو أدركت القوى العظمى أهميتها في التغيير الشامل في تلك البقعة المعقّدة من العالم لساندت رؤية الملك سلمان وولي عهده بكل ما تملك من دعم، ذلك لأن الفوائد الاستراتيجية الكبرى التي ستعود على المنطقة والعالم من هذه الرؤية كبيرة جداً، ويجب ألا تعوقها آراء وتصورات مسبقة.
ولكن يبقى السؤال: هل ما طرحه الأمير هو «ليس في الإمكان أبدع مما كان»؟ الإجابة البسيطة هي «لا»، فأمام المملكة تحديات كبرى بعضها محلي، واضح أن المملكة تتعامل معه بحكمة وبعضها إقليمي ودولي لا تكون فيه كل أوراق اللعبة بيد القائد المحلي. التغيير السعودي الداخلي أمر مستمر لا محالة وقد تتزايد وتيرته ومجاله. مَن اقترب من الملك سلمان يعرف أن العاهل السعودي يجهّز لهذه النقلة النوعية منذ زمن، وأن لديه الجرأة أن يقفز بالمملكة إلى مجالات أرحب ليس فقط على المستوى الاجتماعي والحضاري بل على المستوى السياسي.
وكانت هذه الملامح واضحة بشكل ضمني في حديث الأمير عندما تحدث عن سرعة التغيير واتساع مجاله، وهما من أهم التحديات التي تتعرض لها المجتمعات النامية في التحول السياسي والاجتماعي حتى تجتاز الهزات المصاحبة للانتقال من حالة إلى أخرى، وقد تناول علماء السياسة هذه الهزات بشكل مستفيض، خصوصاً في كتابات صمويل هنتنغتون (الذي يعرفه بعض العرب فقط من خلال كتابه «صراع الحضارات») رغم أنه من أهم أساتذة السياسة التنموية في العالم الثالث، وكذلك كتابات كلٍّ من سدني فيربا وجبرائيل ألموند وآخرين، ولا بد أن داخل رؤية الأمير تحسبات لتلك الارتدادات والهزات المصاحبة للتحول.
التحدي الذي يقف أمام التجربة السعودية يتطلب متابعة حثيثة من القيادة على المستوى المحلي. فالسياسة محلية في المقام الأول، ونجاح الرؤية الحقيقي لا يُقاس فقط بالنجاح على المستوى الوطني أو في الرياض كمحرِّك للقاطرة، بل على مستوى الأحياء؛ من شرورة في نجران جنوباً، إلى عرعر إلى جوار الحدود العراقية في الشمال، مروراً ببريدة وشقرة في الوسط، حتى مدائن صالح في أطراف المدينة، وتبوك وسيهات في الشرقية. التحديات الكبرى للتحول السياسي والاجتماعي تكمن فيما تسمى التنمية على المستوى المحلي المباشر. ورغم هذه التحديات فإنني لن أكون مبالغاً إن قلت إن التغير في المملكة العربية السعودية نموذج يجب دعمه شعبياً وإقليمياً ودولياً، وهي عدوى نتمنى أن تنتشر، ولا بد أنها ستنتشر لأن ولي العهد رفع سقف الخطاب السياسي في المنطقة على طريقة تقديم جردة حساب كل عام لن تقبل شعوب المنطقة بأقل منها فيما بعد.