مصر الكبرى
مصر : اخفاق وقمع واختلاط الأوراق
كانت مرحلة ما بعد ثورة 1919 المصرية ، محاولة بناء المجتمع على أسس ديمقراطية حقيقية والدخول في انفتاح على التعليم بمختلف اتجاهاته للمساعدة في فهم الاحتياجات المطلوبة لدخول العصر . كان التعليم قبل الثورة هدفه إعداد الموظفين لإدارة معاملات الدولة والناس . ولعل روايات نجيب محفوظ كلها ترسم صورة بليغة لأجواء حياة الموطفين وإحباطهم والقضاء على حيويتهم بسبب < الروتين > والتزمت القاسي .
كان لفتح الجامعة المصرية الأثر الأكبر على تحريك روح الطموح . ويصف د. طه حسين في كتابه < الأيام > < الجزء الثاني > حياة جماعية مختلفة تماما عن ترديد النصوص وحفظها كما كان يحدث خلال مراحل التعليم الأزهري الذي كان سائداً في عموم مصر .
كان وراء إنشاء الجامعة المصرية جهود لنخبة مثقفة وجدت أهمية للعلم والانفتاح عليه وبث لغة التجديد والتفكير في المجتمع والارتباط بمنابع العلوم في حضارة غربية خصوصاً في فرنسا وبريطانيا وألمانيا . وقد توجهت البعثات إلى هذه البيئات للحصول على علم جديد لم يكن يتوفر في سنوات سابقة وأحقاب طويلة .
يرى البعض أن الحملة الفرنسية كانت وراء يقظة المصريين وإدراكهم لأحوالهم . إذ أغلق العثمانيون ثم حكم المماليك أبواب الإرتباط بالنهضة الإنسانية التي كانت تتفتح في عواصم الغرب . وعندما وصل محمد علي الوالي العثماني إلى حكم مصر صمم على النفاذ خارج دائرة التخلف فأرسل البعثات إلى فرنسا بالذات لتحديث بناء الجيش وإدارات الدولة . وذهب مع البعثات التي أرسلها الوالي رجل الدين رفاعة الطهطاوي ، وبدلاً من اهتمامه بتعليم أبناء البعثة مبادئ الدين وقواعد العقيدة ، وجد نفسه ينقل علوم الفرنسيين من أدب ومنافع ودساتير وانبهر بتجربة سياسية ديمقراطية تقاوم الاستبداد وتعطي الشعب حقه . وأدرك الطهطاوي بأن التعليم هو الطريق الوحيد . نحو التقدم وكسر حاجز التخلف .
وهذا التعليم لا يمكن تصنيفه ولا لصق يافطة عليه تنسبه للغرب أو الشرق ، إذ إنه محصلة للعقل الإنساني خلال مراحل طويلة . والعرب تركوا في كتاب التقدم عدة فصول ترتبط بالتفكير الحر والانطلاق بعيداً عن حصار الانغلاق .
عندما عاد الطهطاوي من فرنسا إلى مصر منحه الوالي فرصة لترجمة أفكاره ولبناء المؤسسات العلمية والاهتمام بالترجمة ونقل أمهات الكتب الفرنسية إلى العربية . وهذا الإمام رجل الدين من علامات نهضة استمرت تتفاعل في مصر وكانت وراء خروج التعليم من قيوده نحو اكتشاف الأهداف الجديدة وإنارة البيئة المصرية برياح العقل ومكتسبات إنسانية حقيقية .
أدت ظروف المجتمع المصري عقب صورة 1919 لبناء المؤسسات في ضوء ترشيد عقلي ينفتح على البيئة الغربية .وكانت هواجس قديمة نابعة من تيار إسلامي خافتة ربطت بين العلم والاستعمار والتسلط الغربي . وكانت البيئة قوية وتعرف طريقها لذلك لم تنصت للضجيج القادم من قبائل التشكيك وبث الخلافات على قواعد بديهية أولها أن العلم هو مصدر بناء الأمم على أسس تتناغم مع العصر .
كان لخلافات في معسكر الثورة المصرية الأثر الأكبر في تغلغل نفوذ القصر الملكي في عهد فؤاد ثم فاروق لحصار التجربة البرلمانية . وقد أدى هذا التعثر لظهور حركات تنادي بالعنف  لتحقيق التغيير ، ومن خلال هذه الأجواء السلبية برزت حركة الإخوان المسلمين . أدى ظهور الحركة لإنعاش هذه الموجة الإسلامية التي ظهرت لدى الزعيم مصطفى كامل ، غير أن ثورة 1919 غطت عليها بربط مبدأ الاستقلال للدستور وإقامة المؤسسات ومحاربة الاستبداد .
في ظل هيمنة حزب الوفد لم يستطع الإخوان الحصول على موقع قدم في البرلمان ، لأن الفترة كانت مشغولة بمواجهة استبداد السلطة الملكية المتحالفة مع الاستعمار والسعي لإقرار دستور وطني . واستمرت لعبة المنازعة بين الوفد والعرش لفترة طويلة تم خلالها إرهاق الطرفين من خلال هذه المناوشات الحادة وحل البرلمان والتفريط في حقوق سياسية والتنازل عنها لسلطة الاستبداد .
كان لقيام دولة إسرائيل على أرض عربية منح الزخم لحركة الإخوان ، لكنها ظلت أضعف من مقاومة نفوذ حزب ثورة 1919 كما يعبر عنها حزب الوفد الذي كان يقال عنه : إنه عقيدة الأمة . وقد أطاحت ثورة يوليو عام 1952 بالحياة الحزبية شبه الليبرالية . وحاولت الثورة إقامة حزبها ، غير أ،ها استخدمت اليد الباطشة في تجريف الحياة المصرية من أحزاب راديكالية وقوى ليبرالية أخرى . وقد تصادمت الثورة مع الإخوان بعد فترة مصالحة استمرت لوقت قصير . وأدى استخدام البطش في الحوار مع القوى السياسية نمو التيار الأصولي معتمداً على ثغرات وتعثر لآداء الثورة التي دخلت في معارك عنيفة مع الاستعمار من جانب وقوى أخرى إقليمية ، أعطت للإخوان حق لجوء بعض قيادتها إليها في ظل الخلاف الحاد الذي جرى بين عبد الناصر والجماعة .
كانت هزيمة 1967 الضربة القاصمة لنظام يوليو . وقد أدرك الرئيس الراحل السادات أن نظام عبد الناصر انتهى وحاول بناء نظامه الجديد المختلف عنه ، فاستعان بقوة الإخوان لتصفية الأجنحة الناصرية واليسارية في الجامعات التي عارضت الرئيس المؤمن منذ اليوم الأول لتوليه السلطة .
استفاد الإخوان من انفتاح النظام الساداتي عليهم . وقد تغيرت الحياة في ظل هذه الحقبة ، إذ انتعش الخطاب الديني وأصبح له القدرة على تشكيل وصوغ حياة المصريين ودفعهم إلى هذا الطريق وإسدال الستار على مرحلة من الاقتراب من نهج الليبرالية النسبية المفتوحة على عادات إجتماعية بدأ إطلاق النار عليها .
كانت مرحلة السبعينيات هي الأفظع لتيارات ليبرالية ويسارية تعامل معها السادات بأسلوبين : الطرد خارج البلاد والطريقة الأخرى إقصاء كافة القيادات من وسائل الإعلام والجامعات والحياة الثقافية .
عندما اختلف السادات مع التيارات الإسلامية جاء مقتله على يد خالد الإسلامبولي حيث أطق النار عليه يوم الاحتفال بنصر السادس من أكتوبر .
جاء مبارك واتسم عهده في البداية بالإصلاح والهدوء ، غير أن إدارة النظام اعتمدت على يد أمنية باطشة وترك فئة قليلة من رجال الأعمال تدير البلاد لصالحها . وأدت هذه المنظومة إلى تقوية القبضة الأمنية مع انتشار التيارات السياسية الإسلامية في واقع الحياة اليومية للمصريين . وقد نجح النظام شكليا في قمع أنصار تنظيمات مثل الجماعة الإسلامية والجهاد ، غير أن تنظيم الإخوان استغل تردي الأحوال الاقتصادية وانتشار الفساد وغياب الرئيس نفسه عن المشهد حيث كان يجلس باإستمرار في منتجع شرم الشيخ . لقد نما الإخوان بمعدل انتشار سريع إذ كان تدهور الأحوال المصرية يصب في انتعاش خطابهم وطريقة نظرتهم للحياة . وأدى أيضاً تدهور التعليم إلى غياب فئة متعلمة واعية بمصالحها وأهدافها ، مما ساعد على هيمنة الإخوان والتيارات الإسلامية الاخرى على المشهد .
كانت انتخابات العام الماضي قمة لتدهور أحوال نظام مبارك ، الذي وصل إلى نهايته نتيجة أنانية مفرطة . وكان لابد من اندلاع الثورة بهذا الشكل الكاسح وكشفت ما حدثت من تراكمات وانهيارات وتغير جارف في ظل تراجع العلم والإقتصاد أيضاً وزيادة جرعة الهجوم على الفنون وتجريمها . معادلة البرلمان المصري الجديد قد تُزعج البعض ، لكن من يقرأ مسار التاريخ منذ أعقاب ثورة 1919 ، يرى أن الإفراز الذي جاء من حضن البيئة طبيعي للغاية ، إذ هناك مواد مشعة تفرز التخلف استقرت في المعدة المصرية ، وكان لابد من ظهور الطفح على جسد الأمة وهو حصاد طبيعي لمسار طويل من إخفاق وقمع واختلاط الأوراق وضياعها أحياناً .