مصر الكبرى
د. عادل عامر يكتب … هوية الدولة وتحديد قيمها الحاكمة
لقد ساهمت العولمة في توسيع محيط دائرة المعرفة المتاحة والأشخاص الذين قد يلتقي بهم الإنسان، وبذا أصبح التفاعل بين الثقافات والأعراق والديانات جزءا من حياتنا اليومية.
إن العولمة ظاهرة نافذة ومنتشرة، ويظهر مسح عالمي أجراه مركز بيو للبحوث أن «الناس عبر العالم قد أصبحوا أكثر وعيا بتأثير التشابك المتزايد على بلدانهم وعلى حياتهم… ويظهر المسح قبولا واسعا لهذا التشابك المتزايد»كما يظهر المسح أن «الأغلبية العظمى في 42 دولة من أصل 44 دولة تؤمن أن طرق حياتهم التقليدية في طريقها إلى الضياع، وأن معظم الناس يحسون بأنه تجب حماية طرق حياتهم والحفاظ عليها من التأثير الخارجي»ويشير هذا إلى أحد التحديات الأولية للعولمة: كيف ستعيد الثقافات والديانات تشكيل هويتها وتحافظ عليها في عالم متشابك ومتعامد (يعتمد على بعضه البعض)؟ وإذا كان للبعد الاقتصادي دوره في توجيه النقاش حول النظام السياسي، فان للأوضاع السياسية والأمنية دورها، هي الاخري، في التوجيه أيضا. ففي حالة الطوارئ، كما حدث بعد حوادث 11 (سبتمبر)، فإن الكثير من القوانين التي تنظم الحريات العامة تعلق ولو بشكل مؤقت، وتستصدر تشريعات تحاصر الحريات العامة، ويقترب النظام السياسي من ‘الدولة البوليسية’. وهنا تصبح الدولة مصدر التشريع الأساس، وليس المؤسسات المنتخبة التي يفترض ان تمثل الشعوب. وهذا ما حدث في الولايات المتحدة في عهد جورج بوش، وفي بريطانيا في عهد توني بلير. وتجدر الإشارة إلى ان توني بلير قرر خوض الحرب ضد العراق بجانب الولايات المتحدة الأمريكية بقرار مؤسس على معلومات استخباراتية خاطئة، ومنطلق من قناعة شخصية. وقد احتدم النقاش حول مدى شرعية ذلك القرار في مقابل المعارضة الواسعة للحرب. جاء موقف بلير متناقضا مع الاعتقاد السائد بان حزب العمال أقل ميلا للحرب وأكثر حرصا على السلام العالمي، وأقل حماسا للتسلح النووي. وما تزال بريطانيا تعاني من القوانين التي فرضت بدعوى مكافحة الارهاب، وما تزال آليات الدولة تصدر بين الحين والآخر إجراءات تخترق الحريات العامة بدعوى وجود مؤشرات لتصاعد الإعمال الإرهابية الموجهة ضد بريطانيا. اما جورج بوش فقد اعترف في مذكراته التي صدرت مؤخرا بأنه أقر ممارسة ‘الإيهام بالغرق waterboarding’ كوسيلة للتحقيق مع المشتبه بهم، مع ان المنظمات الحقوقية اعتبرته ممارسة تدخل في نطاق التعذيب. فإذا كان رأس الدولة الحديثة قادرا على تقنين التعذيب بهذا المستوى، ولا يشعر بضرورة إخفاء ذلك أو الاعتذار عنه، فيمكن القول بان الادعاء بتطور النظام الغربي على صعيد الحكم، لا يتوافق مع الواقع، وان مقولة ‘نهاية التاريخ’ التي طرحها فرانسيس فوكوياما للادعاء بان الديمقراطية الليبرالية تمثل ذروة تطور التاريخ البشري، قد سقطت جملة وتفصيلا. فإذا كانت الدولة الأقوى في العالم تقر ممارسة التعذيب، أليس ذلك مبررا للدول الأضعف لممارسته لمواجهة معارضيها؟ومن البديهي أن الثقافة المصدرة لن تكون محايدة ولن تتصف بالعالمية، بقدر ما هي تصدير لثقافة الأقوى، المتمكن من زمام التقدم العلمي والصناعي، وهنا ستكون العولمة هي الظاهرة المتسيدة وليست العالمية، وثمة فوارق واسعة بين كلا المفهومين·
فبينما تحقق العولمة تنميط الشعوب، وتوحيد الأذواق، وإلغاء الأنموذجات، وفرض الاختيارات بالقوة والجبر والتهديد، بما يصعِّد من سلسلة الصراعات· يغذي النزعات العدائية بين الأمم والحضارات، تتقدم العالمية لتقريب العالم، عن طريق حفاظها على الأعراف السائدة طالما هي أعراف إنسانية ويتفاعل كل عالم من العوالم إيجابياً في رسم اللوحة العالمية، وإن كان هناك مفكرون غربيون مثل يرون أن العولمة أصبحت تمثل تحدياً للتعلم الإنساني، فسرعة التغيرات والتطورات تتجاوز وسائل التعليم التقليدية وتسابق الخبرات المكتسبة القديمة، ويرون أن العالم لم يتأقلم بعد مع مفاهيم العولمة الجديدة، وخصوصاً أن التغيرات العالمية الراهنة سريعة ومتلاحقة، ولم تألفها الإنسانية من قبل، فتطوير المجتمع العالمي يتقدم بطرق مختلفة تماماً، عما كان سائداً من قبل، وبينما أصبح الأفق العالمي للتفاعل ضخماً في قطاعات معينة من المجتمع ـ مثل عالم الصناعة والمال، والعلوم الطبيعية، وصناعة الترويح والجريمة المنظمة ـ فإن عدداً من النظم الاجتماعية الأصغر مازالت تُدار فيدرالياً أو وفق مبادئ الأمة ـ الدولة، مثال ذلك السياسة والقانون والتعليم، وبسبب أن المجتمع العالمي في طور التشكيل بسرعات متباينة، فإن من الصعب فهمه واستيضاحه بصورة جلية، وبالإضافة لذلك، فإن هذه الأنماط المختلفة من التنظيم تسبب مشكلات فبينما ـ وعلى سبيل المثال ـ تحكم السيطرة على مستوى الأمة على الأنظمة التشريعية والأمنية ومنع الجريمة من خلال القضاء والأمن العام، فإن المافيا بالمقابل لا تزال تعمل ومنذ مدة طويلة بشبكات منظمة عالمياً، وبينما تقوم الشركات المتعددة الجنسيات بإعادة نشر العاملين حول العالم، وتغيير المدارس من دولة إلى أخرى، مع ما يلازم ذلك من الحصول على الاعتراف اللازم بالشهادات، فإن كثيراً ما يسبب المتاعب والصعوبات، لأن التعليم كما قلنا يتم تنظيمه وطنياً، بينما يكون تنظيم الصناعة وإلى درجة عالية عالمياً، ويمكن إدراج أمثلة كثيرة مشابهة·
ومن ملاحظة الواقع العالمي المتطور، نكتشف في الكثير من أجزاء العالم أنه قد أصبح التغير الاجتماعي سريعاً متجاوزاً لتغير الأجيال، ويؤدي هذا إلى مؤثرات كثيراً ما توصف على أنها صراعات أو تناقضات بين ، وأشعر مع ذلك أن هذه المفاهيم لا تمثل بدقة هذا الصراع أو التناقض، لأن المعاصرة بحد ذاتها تخضع كذلك إلى تغير اجتماعي دائم وسريع، فالبيئة المحيطة بالفرد كثيراً ما تتغير جذراً خلال فترة حياته، ويصبح تعلم الأمس أقل استعمالاً في حياة الغد
وخلاصة القول، فإنه يمكن وصف العولمة على مستوى الهدف والمستويين الاجتماعي والزمني، ويواجه الناس بمشكلات هذه التحديات سواء كانوا يعيشون في البلدان الصناعية أو في بلدان العالم الثالث· ويحتاج إنسان اليوم إلى أن يتعلم كيفية مواكبة خبرة كبيرة التعقيد وكثيرة التنوع وعلى مستويات متعددة، وفي هذه اللحظة، فإننا نعيش في حال تاريخية تظهر فيها التغيرات في السلوك الشخصي عاجزة عن ملاحقة سرعة التغير الاجتماعي، وإن قدراتنا على حل المشكلات تتخلف عن التطور في العالم·
إضافة إلى أن هناك شبه إجماع بين أبرز المحللين والمفكرين على أن الانتشار العالمي للرأسمالية يؤدي إلى ضمور وتآكل قوة واستقلالية الدولة القومية، وهي الحافظة الأساسية للهويات السياسية والثقافية، وإن رأس المال عبر القومي يترك تأثيرات عميقة على الدول، والثقافات، والأفراد أنفسهم، ويرسم في كتابه صورة موحية للعولمة عندما يصفها بأنها: ذلك المستقبل مجسداً في تلك الصورة الم