كتاب 11
قصة مدينتين مجدداً: لندن وباريس!
وكأن تشارلز ديكنز، الروائي البريطاني الشهير يُبعث بيننا مجدداً، ليكتب مرة أخرى رائعته الخالدة «قصة مدينتين» عن لندن وباريس. والسطر الافتتاحي الأشهر في تاريخ الرواية باللغة الإنجليزية: «لقد كانت أحسن الأيام، لقد كانت أسوأ الأيام». ويبدو أن هذا هو الوصف الأفضل لأهم عاصمتين في القارة العجوز اليوم.
باريس تواجه للأسبوع الرابع على التوالي، عاصفة من الاحتجاجات الغاضبة والعنيفة بشكل غير مسبوق. ومع بُعد الحكومة عن قراءة الشارع بشكل صحيح، ارتفعت أسقف المطالبات، وباتت الأصوات تطالب بإسقاط وإقالة الرئيس الفرنسي ماكرون نفسه.
وفي لندن، تواجه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، ما قد يوصف بأنه التحدي الأدق والأصعب، في تصويت البرلمان المرتقب على خطة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المعروفة باسم «بريكست». والمؤشرات الأولية تشير إلى أنها لن تلقى الدعم البرلماني الكافي، وبالتالي قد يكلفها ذلك الأمر منصب رئاسة الوزراء، وتضطر لتقديم استقالتها بشكل فوري.
إنجلترا بلد «الماغنا كارتا» التي كتبت عام 1215، واعتبرت أول وثيقة تقنن الحقوق والواجبات، وأقرت بالتالي قاعدة الديمقراطية الحديثة، وفرنسا بلد الثورة الأشهر التي قامت على المبادئ الخالدة الثلاثة: الحرية والمساواة والأخوة، وهي التي ألهمت الآباء المؤسسين للدستور الأميركي، وخصوصاً شخصيات مؤثرة، مثل توماس جيفرسون، وبنجامين فرانكلين، تواجهان تحدياً ديمقراطياً من نوع مختلف وفريد، ويراقب العالم بشكل دقيق كيف سيتم التعامل معه.
بريطانيا تواجه محاولة تمرير استفتاء شعبي أقرته الأطر الديمقراطية (فالنتيجة جاءت باستفتاء ورغبة شعبية) مع العلم بأن تطبيق «البريكست» سوف يكون مضراً جداً بالاقتصاد البريطاني، بإجماع من يتعاطى مع هذا الشأن. وهناك من يعتقد أن «التأخير» في حسم «البريكست» هو نوع من الدراما السياسية البريطانية لتهويل المشهد، والدفع باستفتاء شعبي «جديد»، نزولاً عند رغبة الشعب «مجدداً» الذي «أدرك» هول وحجم المجازفة التي كان سيقدم عليها، وإن كان هناك من يرى أن الإقدام على هذه الخطوة فيه نوع من «الاستهانة» بالرغبة الشعبية، وبذلك يكون قد تم التحايل عليها عبر النخبة الحاكمة فعلياً.
أما فرنسا، فهناك قلق واضح من أن ماكرون قد يضطر إلى أن «يضحي» بنفسه للإبقاء على «هيبة» مؤسسات الدولة والانصياع لرغبة الشارع، تماماً كما حصل في سابقة أخرى إبان حكم الرئيس المهوب والمحبوب شارل ديغول، الذي اضطر إلى الاستقالة نزولاً عند رغبة الجماهير التي كانت تهتف بحياته قبل هذا الحدث بقليل.
الديمقراطية لها أنياب، كما وصفها الرئيس المصري الراحل أنور السادات ذات يوم، وإن كانت في الغرب تأخذ معنى آخر تماماً؛ لأن التجربتين البريطانية والفرنسية ستشكلان منعطفاً حيوياً للديمقراطية في الغرب عموماً، وأوروبا تحديداً، بسابقة نوعية من الممكن القياس عليها واعتمادها.