مصر الكبرى
“أنا حرة” عبّرعن طموح المرأة المصرية في التعليم والعمل والحرية
طلعت حرب شيد بنك مصر واستديو للسينما بجانب مصانع المحلة
كتبت – مروة فهمي :
شاهدت خلال الآونة الأخيرة للمرة العشرين فيلم المخرج صلاح أبو سيف < أنا حرة > . وكلما رأيت هذا الشريط الجميل اكتشف فيه حكايات وإشارات لها دلالة بالغة الأهمية لتطور المجتمع المصري ، لأنه يناقش قضية تعليم المرأة وخروجها إلى العمل في نهاية الخمسينيات . قصة الفيلم كتبها إحسان عبد القدوس وهو معروف بجرأته الشديدة وتناوله القصص العاطفية وعمقها الاجتماعي وكان يتحدث دائماً بصراحة مما كان يثير ضده التيارات المحافظة ومحاولتها دائماً تجميد المصريين ووقف نموهم . كتب سيناريو الفيلم نجيب محفوظ الذي اعترف بأنه تعلم هذه الحرفة من صلاح أبو سيف نفسه حيث اشترك في أعمال بينهما مثل فيلم الوحش وريا وسكينة . وكتب الحوار برشاقة شديدة السيد بدير وهو فنان موهوب جداً له بصماته على الحياة الفنية المصرية وأغلب الأفلام في مرحلة الإسود والأبيض ستجد إسم السيد بدير يتألق على الشاشة .
إلتقى هؤلاء : المؤلف مع المخرج وكاتب السيناريو وصاحب الحوار ، ليصنعوا فيلم سينمائي جميل وجدير بالإحترام ، حيث عُرض للمرة الأولى في عام 1959 ، لكنه يتجدد الآن على الفضائيات وكأنه صُنع هذه الأيام فيما يتعلق بقضية المرأة وخروجها للعمل والتعليم . لكن أناقة النجمة لبنى عبد العزيز تشعرنا بالحسرة الشديدة للتخلف الذي لحق بنا ، فكان نساء مصر في هذا الوقت يرتدين ملابسهن على الطراز الأوروبي الحديث ، فكنا يقلدن الباريسيات والانجليزيات ، أما الآن فإنهم يظهرون بثياب تبدو مصنوعة إما في أفغانستان أو باكستان .
فيلم < أنا حرة > يأتي ضمن مرحلة المخلج صلاح أبو سيف وارتباطه بأعمال الروائي إحسان عبد القدوس . وقد بدأ التعاون بينهما بالفيلم الرومانسي الرقيق < الوسادة الخالية > . وكان المنتج رمسيس نجيب اختار إحسان وصلاح أبو سيف ليقدم زوجته الجميلة لبنى عبد العزيز في فرصة العمر أمام عبد الحليم حافظ في حكاية رومانسية لا تزال لها تأثيرها حتى الآن على الاحيال المصرية المختلفة . وكان صلاح أبو سيف اشتهر بأفلامه الواقعية ، لكن عندما ارتبط بإحسان انتقل إلى المرحلة الأخرى الرومانسية التي تتحدث عن الحب والعواطف مع إعطاء الدلالة الاجتماعية حضورها بسعي المصريين نحو تطور والخروج من نفق العزلة والتفاعل مع حياة مدنية حديثة وتجسيد المجتمعات الراقية في نوادي الجزيرة والأهلي وغيرها من تجمعات الطبقة الوسطى في فترة الخمسينيات .
كلما أرى < أنا حرة > أندهش من جرأة السينما المصرية وشجاعتها ، فقد كانت دائماً رائدة لا تخشى شيئاً وتطرح الموضوعات الشائكة وتتكلم بصراحة وتنحاز إلى الحرية وحق المرأة في تقرير مصيرها .
مشاهدة الفيلم في هذا الوقت بالذات يكشف مدى تراجعنا وتراكم رياح الظلام علينا ، فقصة الفيلم باختصار تحكي عن < أمينة > المصممة على تلقي التعليم الجامعي واختيار حريتها لصُنع مستقبلها وتجسيد هويتها كإمرأة لها مشاعرها ونبضها وعقلها وتريد تقرير حق المصير .
حرية < أمينة > التي كتب عنها إحسان عبد القدوس مسؤولة تماماً وملتزمة أيضاً ، لكنها تسعى لاكتساب العلم والثقافة للتمتع بالحرية في نطاق المعرفة التي تحمي النفوس وتمنح الروح فرصة للتجلي بكل القيم والأخلاق ، لأن العبيد بسبب الجهل يتعثرون في الخطيئة والاضطراب ويفعون في مشاكل لا نهاية لها بسبب العمى الناجم عن الجهل . اما العلم فهو ينير الطريق ويمنح الشخص بوصلة تحدد له الهدف وتجلب له المتعة والسعادة في ظل السكينة والاستقرار .
كانت < أمينة > بطلة أنا حرة تصر على التعليم والدخول إلى الجامعة . والمحيط العائلي بجانبها لا يتفق معهافي هذا الخيار ، فقد كانت الرياح السلفية المبكرة تحاول تكبيل المرأة المصرية وتخويفها من الحرية واستخدام الدين بطريقة خاطئة . وكانت مصر في هذا الوقت تعاند الأفكار القديمة كلها وتشجع التغيير وتدفع بآلاف النساء وللبنات نحو المدارس والجامعات .
في هذه المرحلة كان تعليم المرأة فريضة وطنية واستجاب المجتمع لهذه الرياح وواجه قوى التخلف التي حاولت خنق المرأة المصرية لقيود وحديد التزمت والعبودية .
إحسان عبد القدوس كان يعبر في روايته عن مصر التي تريد التحرر ، ولا يمكن لأمة تسعى للنهوض والمرأة فيها مكبلة وغائبة .
لقد تأخرت مصر كثيراً نتيجة لقمع المرأة . وعندما تفجرت ثورة 1919 الليبرالية وخرجت هدى شعراوي تُلقي بالحجاب على الارض ، بدأت رياح النهضة تهب وفتحت الجامعات أبوابها امام النساء فدخلت سهير القلماوي وعائشة عبد الرحمن وغيرهما إلى المدرجات والتخرج بعد الحصول على أعلى الدرجات مما فتح الطريق أمام انطلاقة البلاد ، والذي تخيلها الرسام والنحات العبقري محمود مختار ، حيث جسد ملامح النهضة في خطوط وجه المرأة الذي حمله تمثاله الموجود أمام جامعة القاهرة ويحمل إسم نهضة مصر .
فيلم صلاح أبو سيف جاء في عام 1959 خلال الصراع المرير حول الديمقراطية والحريات واختار احسان عبد القدوس الدخول إلى القضية من خلال حكاية عن فتاة مصرية طموحة تريد تعليم نفسها للحصول على الاستقلال والتمتع بالحرية ومواجهة قيود التخلف .
الفيلم يعبر عن دور السينما المصرية التي كانت ولا تزال من علامات النهضة . ومن يحاول تدميرها يريد اطفاء مصابيح النور التي تنشر الفن برسالته المحركة للتفكير والدافعة نحو الأمام .
ولم يكن غريباً على الإطلاق أن يؤسس طلعت حرب بنك مصر في بداية القرن الماضي ثم يتجه لبناء مصانع النسيج في المحلة الكبرى ويفتح مطبعة مصر في باب اللوق ويشيد استوديو مصر في الوقت نفسه ويدعو المخرج كمال سليم للعمل معه ويقنع أم كلثوم كوكب الشرق بالوقوف أمام كاميرات السينما . ودخلت الفنانة الرائعة الاستديوهات لتمثل في عدة أفلام ، ثم سار على دربها محمد عبد الوهاب وحدثت قفزة هائلة للفيلم المصري الذي عاصر مراحل الرواج الليبرالي بكل معانيه .
عندما كنت أبحث في تاريخ السينما المصرية وجدت الأحقاب الزاهرة فيها حدثت خلال فترات النضج الاجتماعي وحيوية الطبقة الوسطى وطموح الحياة المدنية التي ساعدت على انتاج الأفلام الغنائية الجميلة والراقصة لنعيمة عاكف وتحية كاريوكا وسامية جمال .
هذا التراث السينمائي الذي نعيش عليه الآن ويغذي الفضائيات ويتمتع به الملايين في العالم ، هو حصاد نهضة مصر وعندما تعاني السينما المصرية من أزمات فاعلم أن المجتمع بدوره يعاني من مرض ومن ضعف صحته الفنية والثقافية وإن هناك أخطاء ما أوقفت كاميرات التصوير وعطلت العمل في الاستديوهات .
الافلام المصرية الرائعة تجعلنا نرى مصر في قمة نشاطها وحيويتها وازدهار أهلها . ويكفي مشاهدة أفلام عبد الحليم حافظ مع فريد الأطرش وفاتن حمامة والتمتع بحكايات سعاد حسني وجمالها المصري الرائع ، مع حضور لبنى عبد العزيز ومريم فخر الدين وتألق نادية لطفي . وجميع أفلامنا تبرق على الشاشة بفضل حضور نساء جميلات وموهوبات صنعن عصر السينما الذهبي ، الذي عبّر عن مصر وهي تعيش وتحلم وتأمل في مستقبل رائع وزاهر .
كانت نكسة 1967 الأثر السئ على السينما المصرية ، إذ أصابت المصريين بحالة يأس واحباط ، وتم استغلال تلك الحالة لترويج مقولات فاسدة تعادي الفن والحياة وتنشر الأشياء الكاذبة بأن السينما حرام والفن بدعة . أصحاب هذه الأقوال السوداء يريدون تحريم الحياة ذاتها ، فبلا فن لا يمكن العيش او الاستمتاع بإيقاع الدنيا . وعبد الوهاب له أغنية جميلة تتحدث عن أن الدنيا ليل ونجوم الفن طالعة تنورها بالموسيقى وكلمات وأشعار وألحان تهزم الظلام وتنشر الضوء .
في فيلم < أنا حرة > تؤدي لبنى عبد العزيز أجمل أدوارها ، كانت محظوظة لعملها مع مخرجين من عينة صلاح أبو سيف وحسن الإمام ومدرسة في الإخراج السينمائي المصري كانت رائدة ومغامرة وجريئة .
وأحاطت هذه المرحلة أسماء متألقة في كتابة السيناريو مثل نجيب محفوظ بالإضافة إلى نجوم السينما من أجيال مختلفة . فأمام لبنى في هذا الفيلم كان شكري سرحان يمثل بحضوره المدهش وهو فنان متعدد المواهب اكتشفه صلاح أبو سيف وفجّر قدراته في فيلم < شباب إمرأة > و < الزوجة الثانية . وعمل أيضاً مع يوسف شاهين في < عودة الإبن الضال > وكانت هناك تجربة رائدة لهما في فيلم < إبن النيل > .
في < أنا حرة > مجموعة كبيرة من الممثلين وعلى رأسهم حسين رياض بجانب زوزو نبيل وحسن يوسف وحسين كمال .
الأفلام المصرية هي عنوان كبير لمراحل الطموح الاجتماعي والرغبة في الانطلاق نحو آفاق التحضر الإنساني . وكانت صناعة مهمة للغاية لها دورها في نشر القيم المصرية وفي ترابط العرب وزيادة علاقات المودة والصداقة مع أجزاء المنطقة .
السينما المصرية حلال خالص ، واي نهضة تحاول مصر اللحاق بها عليها اعادة ضخ الحياة في تلك الصناعة لتكون المعبر عن تنوع الاجيال وقدرة الملايين بالحوار مع العصر وليس التصادم معهم .
كان نجاح السينما المصرية خلال القرن الماضي كله علامة بأن مصر جزء من نضج العالم المتحضر . وحملت هذه الصناعة شعاع البهجة والفن إلى بلاد كانت غارقة في الظلام فأيقظتها من نومها . والآن يحاول البعض الهجوم على السينما المصرية والفن المصري عموماً لإرهاب مشروع النهضة ، لكن هذه الخطة لن تنجح ، لأن الفن أقوى من الظلام ومصر أقوى من القيود.