مصر الكبرى

10:25 صباحًا EET

الإخوان من الثورة المضادة إلى الانقلاب المضاد

أشرف راضي
قد يكون من المبكر الحكم على أداء رئيس الجمهورية محمد مرسي. ويطالب كثير من المراقبين والسياسيين بانتظار نتائج برنامج المائة يوم الأولى الذي أعلنه الرئيس قبل الحكم على سياساته. وينتقد البعض المعتصمين أمام القصر الجمهوري وما يمارسونه من ضغوط على الرجل المنقوصة صلاحياته والذي يواجه حصاراً من داخل "الدولة العميقة". وينقسم مؤيدو الرئيس  من "الأهل والعشيرة" بين من يشيد بما لم ينجزه بعد وبين من يشفق عليه من جسامة المسؤولية. ويتهم الفريقان معارضيه بأنهم "أعداء يريدون تعطيل مشروع النهضة"، ويتحدثون بلغة لا تختلف كثيراً عن لغة النظام السابق التي لا تزال حاضرة في أذهان الكثيرين.

ويتغافل الجميع أو يتجاهلون الحقيقة التي كشفتها نتائج انتخابات الرئاسة، وهي أن الرئيس يقود مجتمعاً منقسماً وأنه جاء للسلطة في أعقاب ثورة لم تنجز مهامها، وأثارت توقعات تفوق قدرات البلاد على تلبيتها، ولا يدركون أن الخطاب الذي يقدمه الرئيس نفسه لا يساهم في تهدئة تلك التوقعات بل يعمل على تصعيدها بتعهده بمواصلة الثورة، في محاولة لاستثمار هذا الخطاب في صراعه على السلطة مع المجلس العسكري لإسقاط الإعلان الدستوري المكمل الذي يقلص صلاحياته ولإعادة مجلس الشعب الذي يسيطر الإخوان المسلمون وحلفاؤهم على أغلبية مقاعده، والذي تم حله بموجب حكم صادر عن المحكمة الدستورية العليا.
وبعيداً عن معركة الرئيس من أجل توسيع صلاحياته وتأكيد سلطته، تدور خلف الكواليس تحركات تبعث على القلق وتشير إلى أن انقلاباً ما يجري تدبيره. وبالرغم من دفاع أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن نتيجة الانتخابات وتأكيدهم أنهم لم يخضعوا لأي ضغوط لإعلان نتيجة لا تعبر عن إرادة الناخبين الحقيقية، وإعلان تأييدهم ودعمهم للرئيس الجديد وتأكيد أنهم لا يرغبون في عدم الدخول في صدام ستكون له نتائج وخيمة على المجتمع والدولة، إلا أنهم يدافعون في الوقت نفسه عن الإعلان الدستوري المكمل كضرورة للحفاظ على مؤسسات الدولة والحيلولة دون أي انقلاب عليها، ويتمسكون بحل مجلس الشعب تنفيذاً لأحكام القضاء.
ورغم تحذير بعض المراقبين والمطلعين من انقلاب محتمل اعتراضاً على نتائج الانتخابات التي أوصلت الإخوان إلى السلطة، إلا أن الأحداث والتطورات تشير إلى تشكل ملامح انقلاب آخر يرتب له الإخوان لاستكمال سيطرتهم على مؤسسات الدولة وعلى الاقتصاد وقمعهم للحريات تمهيداً للهيمنة على المجتمع، وترسيخ سلطتهم بعد أن لعبوا دوراً محورياً في الثورة المضادة التي قادها المجلس العسكري وأركان النظام الجديد، وبدعم خليجي وأمريكي، لاحتواء الثورة. ويشعر الإخوان الآن، بعد أن فاز مرشحهم في انتخابات الرئاسة وبعد أن سيطروا على الأكثرية في مجلس الشعب، بأن الفرصة سانحة واللحظة مواتية لانتزاع السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يبدو محاصراً ويواجه ضغوطا من الداخل والخارج لتسليم السلطة كاملة للرئيس المدني المنتخب.
وبينما يتهم الإخوان المسلمون خصومهم السياسيين، ويتهمون المجلس العسكري بشكل خاص، بقيادة "انقلاب ناعم" على الشرعية، يفتعلون مشكلات لصرف الأنظار بعيداً عن تحركاتهم، ويحيطون الرئيس بحاشية سيكون لها تأثير مباشر على سياساته، بشكل تدريجي لا يلفت النظر. بعض رجال الرئيس قد يشغلون مناصب في الهيكل الرسمي للسلطة أو ينضموا إلى فريقه الاستشاري، والبعض الآخر سيعتمد على العلاقة الشخصية بالرئيس، وهذه المجموعة هي الأخطر، لأنها لن تخضع لأي شكل من أشكال المساءلة أو المحاسبة.
وفي مقدمة هؤلاء المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ونوابه وأعضاء مكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة. ورغم استقالة الرئيس من الجماعة ومن حزبها السياسي، رسمياً، إلا أن هناك مؤشرات على أن خمسة من كبار قيادات الجماعة تشكل الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس. وهؤلاء الأشخاص محمد بديع، المرشد العام ونائبه، خيرت الشاطر وعصام العريان وأسامة ياسين وياسر علي، القائم بأعمال المتحدث الرسمي باسم الرئيس وصفوت حجازي، الذي كان له تأثير كبير على عصام شرف، أول رئيس للوزراء بعد تنحي مبارك وإسقاط وزارة أحمد شفيق. هؤلاء سيكون لهم تأثير كبير على الرئيس سواء شغلوا مناصب رسمية أم لم يشغلوا.
ويتيح الفراغ الدستوري والفراغ الراهن في السلطة، حيث لم يشكل الرئيس الجديد حكومته بعد، الفرصة لأن تملأه شخصيات نافذة في جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي وشخصيات أخرى من خارج الجماعة. وثمة نوع من تقسيم العمل وتوزيع الأدوار بين الرئيس الجديد وبين المجموعة التي تدعمه، سواء داخل الإخوان وحزبهم السياسي أو في معسكر الأحزاب والحركات الإسلامية الأوسع أو ائتلافات شباب الثورة، والعمل في الوقت ذاته على بناء شبكة علاقاته الدولية، من خلال مهام في الخارج غير رسمية وغير معلن عنها يؤديها بعض حلفائه من شباب الثورة.
الرئيس من ناحيته تفرغ لبعض القضايا البسيطة التي من شأن حلها أن يزيد قاعدة تأييده وسط القطاعات الشعبية، بالإضافة إلى الاهتمام بعدد من الخطوات والتحركات الرمزية التي تدعم جهوده لانتزاع قدر أكبر من الصلاحيات وتوسيع دوره داخل مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية والجيش. بينما ينشغل حلفاء الرئيس في جماعة الإخوان المسلمين بمهام أخرى في الداخل والخارج لإحكام هيمنة الإخوان على مؤسسات الدولة ومواجهة الخصوم السياسيين في الداخل والخارج.
وفي حين أن هذه الخطوات تزيد شعبية الرئيس، إلا أنها تطلق أيضا ثورة من التوقعات وتزيد من الضغوط على صاحب المنصب الذي تعتبره غالبية المصريين المخلص، وسيكون لها آثار بالغة الضرر في المستقبل القريب عندما تنفجر المشكلات المتراكمة دفعة واحدة. وبينما يحذر مراقبون من أن تخفيض الدعم على الوقود قد يشعل احتجاجات واسعة النطاق، تواصلت الاحتجاجات الاجتماعية في عدد من المحافظات قطع خلالها العمال والأهالي عدداً من الطرق احتجاجاً على عدم صرف مستحقات أو على الانفلات الأمني وانتشار أعمال البلطجة أو للضغط لتلبية مطالبهم، ويتزايد الانفلات الأمني على نحو ينذر بالخطر.
لكن الأمر الأكثر خطورة هو تعجل بعض القيادات والقواعد في الإخوان المسلمين والسلفيين جني ثمرة الفوز بالرئاسة قبل أن تنضج، على نحو ما يتضح من خلال أعمال اللجنة التأسيسية الثانية للدستور، والتي هيمن عليها الإسلاميون من جديد بالتحايل واحتلال مواقع الأحزاب المدنية والليبرالية لتقليص مشاركة تلك الأحزاب في عملية وضع الدستور، فضلاً عن إتباع نهج يقوم على الترضية على حساب الكفاءة في اختيار أعضائها، وهو ما أثار من جديد الانتقادات والتخوفات التي أثارتها اللجنة التأسيسية الأولى.
وتتخذ جماعة الإخوان المسلمين خطوات في الداخل والخارج، لدعم الرئيس وتثبيت سلطته وقيادته للبلاد. ويلفت النظر في هذا الصدد، أن مكتب الإرشاد قرر عقد اجتماع طارئ لمجلس شورى الجماعة لبحث دعم تنفيذ برنامج المائة يوم الأولى الذي أعلنه الرئيس قبل أن يشكل حكومته في مجازفة محسوبة وفي تحدي معتمداً على الثقة في أن الجماعة انتمى إليها تستطيع تنفيذه باستقلالية عن الدولة وأجهزتها عبر شبكة الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية التي تسيطر عليها. فالبرنامج يتضمن ملفات الأمن وضبط المرور وتوفير الوقود وتحسين رغيف الخبز وحل مشكلة القمامة. وكلها قضايا تمس الحياة اليومية للمواطنين ويمكن للجماعة وحزبها السياسي أن تتعامل معها وعلى نحو يمكنهما من أن يحلا تدريجيا محل الجهاز التنفيذي على المستوى المحلي.
ويأتي اجتماع مكتب الإرشاد لبحث مساهمة الجماعة في تنفيذ برنامج المائة يوم وسط أنباء عن ضغوط تمارسها الجماعة والأحزاب السلفية والدعاة المتشددين على الرئيس بخصوص تشكيل الحكومة، وعدم تنفيذ وعوده التي أطلقها أثناء حملته الانتخابية والمتعلقة بتعيين قبطي وامرأة ضمن نواب الرئيس وتشكيل حكومية شاملة برئاسة شخصية من غير الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، بالتوافق مع الأحزاب مدنية وليبرالية وتضم وزراء فنيين. وأعلن حزب النور السلفي، وأحزاب وشخصيات أخرى متشددة، رفضهم تعيين قبطي أو امرأة في منصب نائب الرئيس. ويتمحور الخلاف بين مرسي والإخوان أساساً حول من يتولى رئاسة الحكومة، حيث يرفض الإخوان أن يتولى المنصب مسئولاً من النظام القديم، ويفضلون أن يتولاه أحد قيادات الجماعة. ووردت أنباء عن ترشيح الجماعة وحزبها السياسي خيرت الشاطر نائب المرشد، ومرشح الجماعة الأصلي للرئاسة، الذي استبعدته لجنة الانتخابات بسبب عائق قانوني يتمثل في حكم قضائي صادر ضده في قضية جنائية.
والبديل الذي تطرحه الجماعة أن يتولى مرسي بنفسه منصب رئيس الوزراء في تكرار لتجربة كل من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر  الذي تولى رئاسة الوزارة ثماني مرات من بين 16 وزارة خلال فترة حكمه المستمرة بين عامي 1954 و1970، والسادات الذي تولى رئاسة الوزارة ثلاث مرات من بين 16 وزارة خلال فترة حكمه بين عامي 1970 و1981، حيث الوزارة في بداية حكمه وفي نهاية حكمه قبل اغتياله، وحسني مبارك الذي تولى رئاسة الوزراء في بداية حكمه في عام 1981. إلى الآن أعلن مرسي رفضه هذا الاقتراح، إلا أن طرح الفكرة في حد ذاته يشير إلى نوايا الجماعة إلى إعادة بناء نظام رئاسي للحكم يركز كل السلطات التنفيذية في يد رئيس الجمهورية الذي يوسع صلاحياته تدريجياً على حساب السلطتين التشريعية والقانونية.
أي أن الإخوان الذين ركزوا في حملة ترشيح مرسي، خصوصاً قبل الجولة الثانية، على أساس أن المرشح المنافس أحمد شفيق سيعيد نظام مبارك، يعملون على ترسيخ ذات النظام الاستبدادي القائم على حكم الفرد الذي يركز كل السلطات في شخص رئيس الجمهورية، مع فارق بسيط أن هذه السلطات ستفوض عبر آليات أخرى يجري اقتراحها لشخصيات وهيئات أخرى يجري العمل على تشكيلها غير منتخبة ولا تخضع للمساءلة، سواء بشكل رسمي، كما هو الحال في النظام الإيراني أم بحكم الأمر الواقع استنادا إلى بناء السلطة والتسلسل التنظيمي في الجماعة.
وثمة مؤشرات على ذلك يمكن ملاحظتها من خلال سلوك المرشد العام للإخوان المسلمين، محمد بديع، الذي كذلك يدلي بتصريحات سياسية لوسائل الإعلام أو من خلال خطبته الأسبوعية، وهي تصريحات تدخل في صميم العمل السياسي الداخلي والخارجي، وفي صميم الصراع السياسي وصنع الاتجاهات السياسية العامة، ويكيل الاتهامات يميناً ويساراً للقوى السياسية المناوئة للإخوان، دون أن يحاسبه أحد على ما يقول أو يفعل، إذا أنه لا يخضع لأي هيكل رسمي في النظام السياسي المصري يحدد صلاحياته وكيفية اختياره ومحاسبته وعزله. باختصار إن المرشد العام يتمتع بصلاحيات كبيرة من الناحية الفعلية والرمزية ويظل في الوقت ذاته فوق القانون والمحاسبة.
وهذا مخالف للنظم الديمقراطية التي تقر بأن السلطة تساوي المسؤولية. ولكن من الصعب تطبيق ذلك في حالة مرسي نظراً لارتباطه بعدد من أعضاء الإخوان المسلمين أو حزب الحرية والعدالة، التي يشوبها نوع من التعقيد والالتباس ولم تتضح ماهيتها بعد بحسب القانون وبما يحفظ للرئيس صورته أمام الإعلام والقضاء، ورغم إعلان مرسي استقالته من الجماعة بعد توليه منصب الرئيس، إلا أنه أكد لرؤساء صحف أثناء مقابلته بهم أنه مازال عضوا عاديا بحزب الحرية والعدالة وهي مسألة تطرح كثيراً من علامات الاستفهام نظراً للعلاقة غير القانونية بين الحزب وجماعة الإخوان لعدم قانونية الجماعة.
المشكلة هنا أن هذا يضع الرئيس في مأزق. فالرئيس أقسم على احترام الدستور والقانون وحماية مؤسسات الدولة، بينما تسلك الجماعة سلوكاً انقلابياً ينتهك غالباً الدستور والقانون، ويسعى لتقويض مؤسسات الدولة، كما يتضح من استغلالهم لأحداث قسم أول مدينة نصر والتصعيد المنهجي والمدروس لتقويض وزارة الداخلية وإخضاعها لنفوذهم ، وتدخلهم لحماية أبناء أعضاء في الجماعة والحزب على حساب سيادة القانون التي تعتبر تجسيداً لسلطة الشعب وحماية لحقوق المجتمع والأفراد، علاوة على عزم الحزب والجماعة على الاضطلاع بمهام تؤثر على الحياة اليومية للمواطنين وتتدخل في شؤونهم دون سند قانوني، يبين واجباتهم وحدود سلطاتهم في أداء هذه المهام.
وتندرج هذه التحركات في إطار خطة الإخوان المسلمين الانقلابية التي تقوم على ثلاثة محاور تستهدف استكمال خطتهم للتمكين، من خلال الهيمنة على الاقتصاد وعلى منظمات المجتمع المدني وعلى المؤسسات السياسية المنتخبة، وتقييد حرية الإعلام، لتهيئة المسرح لتأسيس دولتهم مع الاحتفاظ بالهياكل القمعية التي سيحتاجونها من النظام السابق، بينما يخوض حلفاؤهم من السلفيين والتيارات الأخرى المعارضة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة معركة إسقاط الإعلان الدستوري المكمل.
ويلجأ الإخوان والرئيس في هذه المعركة إلى الاعتماد على ممارسات كانت سائدة في النظام السابق والإبقاء على ما يفيدهم من تشريعات وقوانين، والاعتماد على الاتصالات الشخصية والمكافآت لضمان ولاء الجهاز البيروقراطي، وخصوصاً البيروقراطية الأمنية بأساليب تنتهك القانون أحياناً. بل ويتجاوز الرئيس حدود صلاحياته ويتخذ قرارات لا تخضع للمراقبة والمحاسبة في تدخله لحل مشاكل بعض العمال وتسوية مشاكلهم المالية دون أن يكون واضحاً من أي بنود تأتي هذه التسويات وما هي سبل مراقبة إنفاقها، علاوة على ما ينطوي عليه هذا النهج للسعي لتهدئة أصحاب المطالب الفئوية في توليد توقعات متزايدة يعب تلبيتها نظراً لمحدودية الموارد المالية للدولة والحاجة إلى ضغط الإنفاق العام للدولة في الميزانية الجديدة.
ويبقى السؤال، كيف يمكن تأسيس النظام الجديد على مبدأ حكم القانون الذي يعد ركناً أساسياً من أركان النظام الديمقراطي في ظل وضع كهذا؟ قد لا ينسجم هذا السؤال مع أفكار الجماعة التي مازالت تستند إلى بعض المفاهيم والمبادئ المستمدة من الفهم المتشدد للإسلام والشريعة، لكنه بالتأكيد ينسجم مع القسم الذي أداه الرئيس المنتخب ثلاث مرات. والحنث باليمين والكذب خطيئة كبرى في النظم الديمقراطية قد تؤدي إلى عزل الرئيس أو أي مسئول من منصبه، لكن لا نعرف إذا كانا من الخطايا الكبرى بالنسبة لجماعة تستمد مبادئها من تعاليم الإسلام، أم أن ممارستها المبتذل للمبكيافيلية يبيح لأعضائها الكذب.

التعليقات