كتاب 11
الخلود… سر الإنسان وعظمته!
تبدو الطريق للخلود مربكة وخطيرة حين يقصده الإنسان بنفسه، ويصبح مُستحقاً أكثر حين يخلعه الزمن، وتقدير الآخرين على مُستحقه، وكلما ربطتُ العظمة بالخلود خذلتني الأمثلة، حتى وإن كانت النتيجة واحدة، فإن الطرق تبدو مختلفة، اختلاف الليل والنهار!
الذي يجعلني في غاية الطمأنينة، أن لكل إنسان قائمته من العظماء، وحين يأتي الكلام عن الخلود تبدو القائمة أقصر، وأكثر تحديداً، فما أكثر العظماء عند كل شعب، وما أقل الخالدين باتفاق الشعوب أو باختلافها. وبين هذا وذاك تبرز صفات تعطي بعض العظماء حق الخلود أكثر من غيرهم، أقلها عند العبد الفقير لربه!
لن أذهب إلى جدل التعاريف هذه المرة، لكني حريصٌ جداً على التحذير من شيئين؛ الأفكار الخطيرة، وقصد البحث عن الخلود طريقة حياة!
ففي حياة كل خالد – حياً أو راحلاً – فكرة محورية غيرت حياته، وحياة الذين سيدافعون عن استحقاقه للبقاء في الذاكرة طويلاً، وأحياناً موقف لا يتعدى عمره الثواني في عمر الزمن، لكن يمتد ذاك الأثر حتى يسجل لصاحبه اسمه في الخالدين.
شخصياً، يسحرني المخترعون والمكتشفون، أحب أن أتتبع سيرهم الذاتية، لماذا وكيف ومتى كانت لحظة الإشراق المفصلية، أعود دائماً لجوناس سولك (ت 1995)، ذاك الذي اكتشف لقاح شلل الأطفال، بعد أن عجز الأطباء والصيادلة عن ذلك، ليست هذه هي اللحظة المهمة لقارئ مثلي، لكن الدهشة الأبدية هي رفضه القاطع لتسجيل اللقاح باسمه!
لماذا؟!
كي يبقى مجانياً مدى الحياة، ومتاحاً للاستخدام دون شرط أو قيد!
يدهشني اهتمام عباس بن فرناس (ت 887) بالموسيقى رغم أن الناس تعرفه بغير ذلك، وأزعمُ أن عقله الرياضي – ولا تخفى علاقة الموسيقى بالفيزياء والرياضيات – كان المفتاح لما تلا من اكتشافات للأمازيغي العظيم بن فرناس.
مع كل كتاب أنتهي من قراءته، أزداد يقيناً وقناعة بعظمة وخلود الفرنسي لويس برايل، ذاك الذي فقد بصره في الثالثة، ولم يجعل ذلك عائقاً عن الوصول إلى رفوف المكتبات، ليس في زمانه فحسب، بل طور طريقة يمكن بها الانتقال إلى كل لغات الأرض، ليعطي المبصرين حق تقاسم المعرفة مع الآخرين.
«ولد برايل في 4 يناير (كانون الثاني) 1809، وفقد بصره وهو في الثالثة من عمره، وانضم إلى معهد باريس في سن العاشرة، وقبل التحاقه بالمدرسة علمه أبوه استخدام يديه بمهارة. كان لويس حاد الذكاء، فأصبح تلميذاً وموسيقياً بارعاً. وبعد تخرجه أصبح معلماً في المعهد الملكي للشباب المكفوفين واهتم برعاية المكفوفين. ولقد تمكن برايل أن يكتب طريقة الشفرة العسكرية التي كان قد اخترعها الضابط الفرنسي بيير لسكي، ليرسل التعليمات العسكرية إلى الجيش الفرنسي، وهو في حربه مع الألمان وتتكون أساساً من اثنتي عشرة نقطة، ويمكن أن تتكون كل الكلمات بالتبادل، إلا أن برايل استطاع تعديل واختصار الاثنتي عشرة نقطة إلى ست نقط، ليسهل الموقف التعليمي على الكفيف»، وأزعم – وهذا حقي – بوصفي عاشقاً لبرايل، أنه من العظماء الخالدين في كل العصور، شاء من شاء وأبى من أبى!
أحبّ العودة إلى اللحظات المجنونة، التي جعلت المهاتما غاندي (ت 1948)، والأم تيريزا (ت 1997)، ونيلسون مانديلا (ت 2013)، يقررون حزم حقائبهم والمشي باتجاه فكرة خطيرة آمنوا بها، سواءً كان مشياً سلمياً على الأقدام، كما فعل غاندي، أو بقاء ثلاثة عقود في زنزانة سجن، أو ترك مغريات الدنيا والبقاء بجوار المجذومين كما فعلت تيريزا!
بقدر ما أحب تلك المعلومات، التي تجعلني في علاقة خاصة مع الذين أحبهم من العظماء، أقف محترماً لرؤى الرجال المؤسسين، الملوك القادرين على الحلم، فجسر الملك فهد الواصل بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، شاهدٌ على قدرة البصيرة على تذليل الجغرافيا، وإعادة رسم الخيال، ليكون واقعاً يبقى شاهداً على عظمة الفكرة حين تصافح مُبصراً كامل النظر.
وقبل الجسر توسعات الحرمين، التي اختص بها ملوك العرب المسلمون وخصوصاً ملوك السعودية بلدي الذي أفتخر بمنجزاته، وقبل ذلك كله همة الفراعنة الذين شيدوا قبل شركات المقاولات، ما لا يمكن للإنسان الحالي بكل مقدراته منافسته، وما أصدق قول القائل:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا
ولم يتغيرا بتغير الحدثان
ومهما ذهبت في قائمتي الطويلة بعيداً، فإن امرأة واحدة تجبرني على العودة إلى سيرتها مرات ومرات. تلك التي حفظت عنها قولها للرجل الذي حاول تثبيط همتها عن سقيا الماء للحجاج والمعتمرين: «اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً»، تلك التي حين اجتمع العمال لديها، وأخرجوا دفاترهم ليؤدوا حساب ما صرفوه، وليبرّئوا ذممهم من أمانة ما تسلموه من خزائن الأموال، وكانت هي في قصرها المطلّ على دجلة، أخذت الدفاتر ورمتها في النهر، قائلة: «تركنا الحساب ليوم الحساب، فمن بقي عنده شيء من المال فهو له، ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه»، وألبستهم الخِلَع والتشاريف، كلانا يسابق الآخر ليقول قبل صاحبه: إنها العظيمة الخالدة، زبيدة صاحبة العين الشهيرة، نعم – عزيزي القارئ – هي ذاتها وعينها، تلك التي تبسط تعقيد ما قلته في البدء، بين قصد الخلود واستحقاقه.