كتاب 11
رسالة إلى الأمة العربية
لا شيء أشد وطأةً على الأمم عبر التاريخ مثل ظهور الحضارة والنهضة بغتة دون نُضج فكري مُسبق كافٍ لمجابهة هذا التحدي، إذ إن هناك علاقة طردية بين النهضة والنضوج الفكري، فكلما زادت هذه العلاقة ينقاد الإنسان نحو العقل..
اليوم تأتينا نفحات الحياة والأمل من الجنوب، حيثُ اليمن.. هكذا يدافع جنودنا الأبطال ليمنحونا الحياة الآمنة.. وفي الشمال حيثُ سوريّة المُتعبة من القتال الذي اختلطت به البطولة مع الجرائم، سوريّه المشغول بها المجتمع الدولي لا لإعمارها؛ بل لزيادة انقساماتها. والعراق حيثُ طوق الفوضى، تصرُخ بغداد.. النجاة.. النجاة! ومن الغرب ليبيا التي استفاد من فوضاها الكبار من الدول العُظمى، طبعاً للنهب فالسرقة تُصبح مهنة الجميع إن عمّت الفوضى كما تعلمون.
إن الرّوح التي وهبني إياها الله بدت اليوم كروح اقتربت إلى أولى منازل الآخرة دون أن تُكمل وصاياها للأُسرة، ثم للمجتمع، ثم للأُمة.. ما أثقل الوداع دون الانتهاء من الدور البشري الذي بُعثت من أجله هذه الرّوح، خاصةً عندما ترى أُمّتها «كالشابّة التي تكتب رسائل حب وشوق، وهي تبكي بشدة، تعتقد أن حبيبها يقرأ ما تكتُب، وفجأة تكتشف أن من تحب ليس حُراً؛ ليقرأ. وعندما يئست قررت أن تهرب مثلما تهرب الفتيات الأوروبيات إلى الأديرة في القرون الوسطى، ويعزفن عن الزواج مدى الدهر ثم يبقى الحُب سِراً يجهله العالم، ومع مرور الزمن يذبل شبابهن، ولا تبقى سوى ذكرى ذاك العشيق تؤنس عقولهن، يعشن على الماضي دون وعي وثقة بما هو آتٍ وهكذا إلى أن تُقبض أرواحهُن..
وعلى كل؛ ففكرة هروب الفتيات الأوروبيات إلى الأديرة يُذكّرني بحال صراع أُمتنا اليوم، فالشعوب العربية تُخاطب الماضي كما تُخاطب الشابة حبيبها الذي لم يتحرر بعد، إذ إن الحبيب بالنسبة للأمة العربية كالماضي.. الماضي الذي نبعثُ إليه رسائل شوق دون أن نُحرِّره؛ ليقرأ وبالتالي ندور على نفس الدائرة، ثم عندما نُصدم بحقيقة الماضي المُكّبل، نهرُب إلى الانعزال والبؤس وهكذا حتى الموت.
تماماً كنظرية «التحدّي والاستجابة» التي هي من نتاج المؤرخ «توينبي» حيثُ يقول: إن الفرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه لفترة ما، ثم قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة: الأول النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فيُصبح انطوائيًّا؛ والثاني، تقبّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثم محاولة التغلُّب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيًّا. فالحالة الأولى تُعتَبرُ استجابةً سلبيَّة، والثانية إيجابيَّة بالنسبة لعلم النفس.
وقد لاحظ المؤرخ أن هذه النظرية تنطبق على حالة العرب، فإنهم تعرضوا لصدمة الحضارة، فلجأوا إلى النكوص إلى الماضي دفاعًا عن النفس.
ولا شيء أشد وطأةً على الأُمم عبر التاريخ مثل ظهور الحضارة والنهضة بغتة دون نُضج فكري -مُسبق- كافٍ لمجابهة هذا التحدي، إذ إن هناك علاقة طردية بين النهضة والنضوج الفكري، وبالتالي كلما زادت هذه العلاقة ينقاد الإنسان نحو العقل، فيبدأ بتفسير الكون من حوله إلى أن ينضج ومتى ما انحرفت الأمة إلى العقل زاد نضجها السياسي والديني والفكري والاجتماعي.
لذلك أستطيع أن أفسّر ما يحدث الآن من ثورات وهمية وحروب دامية في الوطن العربي، مهما تعددت تفسيراته وأسبابه، يظل سبباً واحداً واضحاً ومنطقياً لظهور مثل هذه الأنواع من الصراعات ألا وهو: عدم النُضج سياسياً وفكرياً بما يكفي، ويعود السبب وراء ذلك، لأن الأمة العربية من بعد سقوط الدولة العبّاسية عُزِلت لقُرون رُغماً عنها عن زِمام السياسة، وظل الفكر حبيساً للماضي، حيث الحنين إليه. إن ما حدث بالأمة العربية ليس عزلاً سياسياً فحسب! بل عزل فكري وحضاري.. مُقيت.
ثم ما إن تحررّت الأُمة العربية حتى سقطت في قبضة الاستعمار الشرس الذي انتهى في القرن الماضي، فأصبحنا بذلك نُمثِّل الشخصية النامية لكننا لم نتجه نحو النمو بطرق أكثر فاعلية وعقلانية؛ بل على العكس نعود للماضي ولا نسرق منه سوى العُقد لنضعها في الحاضر، لا أكتُب ذلك «جلداً للذات» إنما الحقيقة هي أننا لم نستفد من التاريخ بما يكفي ولم نحتفظ في ذاكرتنا التاريخية سوى بقصص الثأر والعُقد التي ولّدت تيارات دينية متناحرة لا ترى سوى الموت شعاراً لها، لم نستفد من تاريخ الأُمم التي استطاعت أن تتخلص شيئًا فشيئًا من عُقدها تجاه الاعتقادات سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية، هل ينقُصنا فلاسفة يا تُرى؟ أم ينقُصنا مؤرّخون يستطيعون أن يفسِّروا الماضي بكل عقلانية وتجرُّد؛ حتى نعي تماماً كيف نستفيد من الماضي بكل ذكاء وثقة وحكمة.
اضاءة:
يقول المؤرخ الفرنسي بول هازار لم يكن شعب إنجلترا يبدو في بداية نهضته موهوباً في الآداب، وعندما طلب لويس الرابع عشر من سفيره في لندن أن يقول له من هم الفنانون والكُتّاب في إنجلترا أجابه السفير: بأن الآداب والعلوم تُغادر أحياناً أحد البُلدان كي تذهب لِتُشرِف عليها بلدان أُخرى. وهي حالياً قد انتقلت إلى فرنسا التي هي ملكك حيثُ عُقر دارك.
وكأنه كان يُنبّهه الملك إلى كيفية التعامل مع انتقال هذه العلوم، وكيف يتعامل مع تاريخ إنجلترا الذي مر بمراحل تطوّر أكثر من بلده، إذ الفكر في إنجلترا كما ذكر المؤرخ بول يتميز بالقوة الفردية والعمق والجرأة ومنذ ذلك الحين تجاسر الفرنسيون نحو مجد العقل والآداب والفنون ليُكوّنوا أنظمة سياسية واجتماعية وفكرية امتد أثرها شمالاً وجنوباً، حتى الشرق إلى أقصى الغرب نحو أمريكا.
«إذاً لا شيء يقود الأمم سوى الثقة بالعقل، ومتى ما كان هناك ثقة بالعقل، فإن الفرد سيُحسن التعاطي مع تاريخه وماضيه دون عُقد ودهاليز دينية مؤدلجة، أو عادات وتقاليد تقوده نحو العيش بالغابة، حيثُ تنافُس الثيران التي تقود إلى الفوضى»