كتاب 11
حال الكتاب الحزين!
يستمر عدد المكتبات في انحسار شديد ومتواصل. لا يكاد يمر شهر إلا ويأتي الخبر الحزين عن إغلاق مكتبة أخرى لعدم الجدوى الاقتصادية، وانحسار انتشار الكتاب بسبب عدم الإقبال على القراءة. لي علاقة خاصة مع المكتبات «العامة» في أهم المدن العربية بلا استثناء، ففي جدة لي موعدي مع «دار المريخ»، وفي الرياض مع «المكتبة التراثية»، وفي المنطقة الشرقية مع «دار المتنبي»، وفي القاهرة هناك «مدبولي» و«دار الشروق» و«ديوان» و«ألف» و«كتبخانة»، وفي الأردن هناك «نيوز آت كافيه» وفي بيروت هناك «أنطوان» و«بيسان» و«نوفل» و«النهار» و«الشرقية» و«الدولية»، وفي دمشق هناك «النوري»، وفي البحرين هناك «الوطنية»، وفي الكويت «ذات السلاسل»، فشكلت معها عبر السنوات علاقة وصل روحانية ووجدانية تعكس علاقة الإنسان بالكتاب. والكتاب من أهم علامات ومؤشرات الإبداع الإنساني بلا أدنى شك. فمسيرة التأليف الإنساني للكلمة وإطلاق الخيال مسيرة قديمة بعمق الزمان، تتجسد هذه الفكرة بوضوح حينما نتذكر العمل الإبداعي العظيم الخالد «ملحمة جلجامش»، الذي جاء من حضارة بلاد ما بين النهرين، ومن الشرق الأقصى لا يزال بين أيدينا حكم بوذا وأقوال كونفوشيوس و«فن الحرب» لـ«صن تسو»، وأول رواية معروفة بعنوان «قصة جنجي» لكاتبة يابانية عرفت باسم موراساكي. وكيف يمكن إغفال عظمة قصة «ألف ليلة وليلة» وسرد شهرزاد لشهريار عن العوالم البغدادية الساحرة. وفي دنيا أميركا اللاتينية نتذكر الرائعة الشهيرة عن حضارة المايا قصة «بوبول فوه»، وهناك الكاتب الأسطوري سيرفانتس الذي تنسب إليه الرواية الحديثة؛ فهو صاحب الرواية المهمة «دون كيشوت». وتاريخ الكاريبي لا يمكن معرفته إلا من خلال قصص ديريك ولكوت وفي إس نيبول، وصولاً لتركيا وقصص أورهان باموك. وعربياً لا يمكن قراءة تاريخ مصر المعاصر إلا من خلال «ثلاثية» نجيب محفوظ، ولا آثار النفط على المجتمع الخليجي إلا من خلال رائعة عبد الرحمن منيف «مدن الملح» بأجزائها كاملة.
الكلمة والكتاب لهما أثر السحر في نقل الخيال والعلم والمعرفة إلى آفاق رحبة وواسعة لا حدود لها، ولا يزال أثر الكلمة والكتاب مستمراً بيننا ونحن نسبح في بحور أمين معلوف وهو يتنقل بنا من حضارة إلى أخرى، في كل كتاب من كتبه يجبرنا فيها على التأمل والتفكير بقدر الهروب والاستمتاع. بحكم سفري الكثير، فدائماً ما يكون صديقي الأقرب هو الكتاب، فلا أستطيع أن أسيطر على فضولي في مراقبة ما يقرأه الناس في الطائرة أو في قاعة الانتظار، فأجد المجتمعات العربية عموماً، إذا كانت تقرأ، فهي تفضل الصحف والمجلات، لأنها تعشق الخبر، وبالتالي النميمة، بينما المجتمعات الغربية واليابان وكوريا الجنوبية والهند تفضل الكتاب، لأنه يعتمد على المعرفة والمعلومة والخيال. هناك فرق كبير بين الاثنين. ليست هذه الكلمات ولا هذه السطور هي أول تعبير حزين عن حال الكتاب وحال القراءة. ولعلي أختصر الوضع المأساوي لتلك الصورة بمشهد مفزع حدث معي أنا شخصياً، حينما صادفت على الطائرة في إحدى الرحلات مسؤولاً عربياً كبيراً جداً، وقال لي بالحرف الواحد: «يا أخي أنت لا تزال تقرأ الكتاب؟ أنا لم ألمس كتاباً واحداً منذ تخرجي من الجامعة».