أفضل المقالات في الصحف العربية

09:10 صباحًا EET

نحو قومية عربية ناقصة؟

نحو خيال استراتيجي جديد للعالم العربي، هكذا كان العنوان، ورأيت أنه عنوان أكاديمي بارد لا يشد القارئ، فاستقر رأيي على القومية العربية الناقصة كعنوان مشوق حيث سيظن البعض أنني إما أسخر من فكرة القومية العربية أو أنني بصدد الهجوم عليها، وفي هذا تشويق لمناصري مشروع القومية العربية ومعارضيه حيث سيبحث الكل عن ضالته التي يهجم بها على المقال وعلي. ولكن القصد لم يكن هذا أبدا، فما أدعو إليه هنا هو قومية عربية ناقصة (minus) أي مشروع قومي عربي دون الخرافات والزخارف التي أسقطتها كمشروع عندما فشلت في أخذ خصوصية الدولة الوطنية في الاعتبار وتجاوزت الأعراف الدولية. أدعو إلى قومية عربية في مواجهة التحديات الوجودية الآنية مبنية على الاقتصاد والأمن الإقليمي العربي آخذين في الاعتبار الخصوصية الثقافية والسياسية للدول العربية، وهنا أركز مرة أخرى على أنها دول، يجب احترام أنظمة حكمها وخياراتها المحلية، نتشابك مع بعضنا البعض في مواجهة التهديدات الخارجية وحتى الداخلية من أجل مساعدة كل دولة على حده في تقليل هواجسنا الأمنية ومساعدة شعبها على الازدهار والرفاهية. ولمواجهة التحديات الحالية المعقدة التي يفرضها علينا واقع أشبه بحالة حرب السويس عام 1956 والتي كتبت شهادة وفاة الإمبراطورية البريطانية في المنطقة. أبحث عن خيال استراتيجي جديد متحفزا بتلك المكالمة التليفونية التي حدثت بين الرئيس الأميركي باراك أوباما وبين الرئيس الإيراني حسن روحاني والتي توحي بأننا أمام حالة من ذوبان الجليد بين أميركا وإيران مما يجعلنا نفكر كثيرا في طبيعة التحديات الاستراتيجية التي تواجه الفضاء الجيوسياسي العربي من قبل دول الجوار غير العربي المتمثلة في إسرائيل وإيران وتركيا من ناحية وطموحات الدول العظمى من ناحية أخرى. أكتب أيضا وأنا مدرك أن 80 في المائة من خطاب الرئيس الأميركي أوباما في الأمم المتحدة كان عن العالم العربي الذي بدا وكأنه مشكلة العالم أو تم تدويله وأصبح شأنا عالميا. أكتب هنا وفي ذهني حالة الوهن الاستراتيجي العربي الجاذبة للتدخل الأجنبي بشتى صوره وفي ذهني في ذات الوقت ذلك الحدث الشعبي العفوي الذي حدث في مصر يوم 30 يونيو (حزيران) 2013 في مصر.

فرغم أن من خرجوا في مصر كان هدفهم إحداث تغيير محلي مرتبط بسحب الثقة من الرئيس المعزول محمد مرسي فإن تبعات ما قاموا به كانت إقليمية وربما عالمية أربكت الخطط الإقليمية والعالمية في المنطقة. وخلقت سيولة جديدة تعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي في الإقليم برمته. ولا يخفى على أحد من كلمة أوباما أيضا أن هؤلاء الضعفاء بدعم من المملكة العربية السعودية والإمارات قد انتصروا واعترف أوباما بشرعية النظام الجديد في مصر.
ومع ذلك حتى هذه اللحظة لم يدرك المصريون مغزى ما حدث وخصوصا فيما يتعلق بالموقفين السعودي والإماراتي تجاه ثورة 30 يونيو في مصر ومعهما أيضا الموقف الكويتي. فبصراحة لا لبس فيها لقد فرضت اللحظة على هذه الدول الخليجية الثلاث – المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت – خيارا ما بين مصر والغرب فاختاروا مصر، ولم يكن الخيار عاطفيا كما يتصور البعض فمصر هي عمق استراتيجي لهذه الدول الثلاث في مواجهة تهديدات عدة آنية ومحتملة من قبل دول الجوار ومن قبل قوى عالمية. وقد وصفت هذا التحالف الاستراتيجي بين الإمارات والسعودية ومصر بأنه مثلث استراتيجي جديد وكتبت مقالا في هذه الصحيفة بعنوان «مثلث استراتيجي جديد في الشرق الأوسط» (19 أغسطس (آب) 2013). ومع ذلك أقول لم يستوعب المصريون ما حدث، وأنا أعي تماما أنه لو كان موقف هذه الدول ضد 30 يونيو لدخلت مصر فيما فيه سوريا الآن. وكان «الإخوان» حطموا مصر على من فيها وخلفوا فوضى إقليمية لا يحمد عقباها. من هنا علينا كمصريين أن ندرك معنى ما حدث وأن نعمق ونوسع الشراكة الاستراتيجية مع المنظومة الخليجية. أدعو إلى خيال استراتيجي عربي حول قومية عربية ناقصة، بمعنى أن القومية العربية هي فضاء ثقافي يسهل من مهمة الدول في التواصل فيما بينها حول القضايا الاستراتيجية المهمة. قومية عربية تعضد كيان الدولة وليست بديلا عنها، كما حدث في المشروع العروبي القديم أو مشروع خلافة «الإخوان» العابر للحدود، الذي يهدف إلى إسقاط الدول. القومية العربية الناقصة هدفها البناء لا الهدم.
في 11 مارس (آذار) 2009 كتبت مقالا في صحيفة «المصري اليوم» القاهرية أثار لغطا في مصر بعنوان «مصر دولة خليجية»، وقلت يومها بالنص «قد تبدو فكرة أن مصر دولة خليجية نوع من الخيال الاستراتيجي»، لكنني سأحاول في هذا المقال أن أطرح هذه الفكرة الجديدة ضمن تصور استراتيجي لأمن الخليج من منظور الأمن الإنساني، وهو منظور جديد لفكرة الأمن الإقليمي يجعل من تصورنا لمصر على أنها دولة ذات دور خاص في مسألة أمن الخليج ليس ضربا من الخيال.
إن فهم الدور المصري في المرحلة المقبلة المليئة بالمخاطر والفرص ودور مصر «كدولة خليجية»، يعتمد على معطيات بعضها جديد والآخر قديم، أول هذه المعطيات هو التوافق المصري السعودي الإماراتي الذي نراه اليوم، وهو أمر حدث جزء كبير منه في فترة الرئيس السابق مبارك، حتى لا نبخس الناس أشياءهم، وتعاظم هذا التوافق بشكل كبير بعد 30 يونيو ومن بعدها 3 يوليو (تموز) التي أسقطت حكم «الإخوان» في مصر إلى الأبد، ولدول الخليج مصلحة كبرى في أن ينتهي نظام «الإخوان» في مصر. الثاني، هو تمدد النفوذ الإيراني المستمر الذي لم يعد مقتصرا على دول الخليج وبلاد الشام، بل امتد إلى غيرها. إضافة إلى التقارب الأميركي الإيراني الجديد القديم. أما المعطى الثالث، الذي يجعل من مصر دولة خليجية فهو حجم العمالة المصرية في دول الخليج، الذي قد يصل إلى أكثر من مليوني نسمة.
أما من حيث الجوانب الاستراتيجية البحتة، فيمكننا القول إن لمصر سواحل بحرية، قد تكون هي الأطول، مع المملكة العربية السعودية التي تعد الدولة الأهم والشقيقة الكبرى في دول مجلس التعاون الخليجي. مصر كانت في تاريخها الحديث تدرك دائما أهمية مسألة أمن الخليج بالنسبة إليها جيدا.
على الجمهورية الجديدة التي تتشكل في مصر اليوم بعد 30 يونيو أن تتعامل بجدية وصرامة مع فكرة أن أمن مصر هو جزء لا يتجزأ من أمن الخليج، وأن مصر قد أصبحت فعليا دولة خليجية. التفاعلات القائمة، سواء من حيث حركة المصريين في بلدان الخليج أو من خلال الدور الخليجي في إنقاذ مصر من الانهيار بعد غروب شمس «الإخوان» جميعها تصب في التصور الذي أطرحه اليوم، والذي يحتاج منا إلى نقاش مستفيض كي يتبلور كمفهوم استراتيجي لقومية عربية ناقصة الزخارف ولكنها كاملة متكاملة في قضايا الأمن والمصالح التي تهم الشعوب والدول معا.
حالة الوهن الاستراتيجي العربي والتحديات القادمة من دول الجوار غير العربية المتمثلة في إسرائيل وتركيا وإيران ومعها الدول الكبرى الطامعة، تفرض علينا خيالا استراتيجيا جديدا، أتمنى أن نبدأ حوارا جادا حوله في مصر وفي دول الخليج، وأتمنى أن يكون هذا المقال بداية تحفيز للأذهان من أجل قومية عربية ناقصة لا تلغي الدولة العربية الحديثة أو تهددها ككيان وإنما تعضد من وجودها وتساعد كل نموذج للحكم للنجاح على حده في إطار مفهوم استراتيجي جديد يخدم الجميع أسميه هنا «القومية العربية الناقصة» أو الجديدة.

التعليقات